Skip to main content
محمد العامري بين سيوران والعامري وأحلام كورونا

  محمد العامري بين سيوران والعامري وأحلام كورونا

تقدمت كتاب محمد العامري «أحلم بالرصيف.. يوميات موحشة في زمن كورونا» الذي صدر هذا العام في عمان عن دار خطوط وظلال، عتبة اقتباس مهمة بعد عتبة الإهداء، وهي نص للمفكر والأديب الروماني إميل سيوران Emil Cioran يقول فيه: «التواصل الحقيقي بين الكائنات لا يتم إلا عن طريق الحضور الصامت، عن طريق التواصل الظاهر، عن طريق التبادل الملغز والخالي من الكلام، الشبيه بالصلاة الباطنية».

في البداية لم أعر هذا الاقتباس اهتمامًا، ولم أحاول أن أنطلق منه،كما من المفترض، لفهم ما ورد في كتاب العامري؛ لأن كثيرًا من الاقتباسات التي يستخدمها الأدباء والكتاب سواء في الصفحات الأولىلأعمالهم،أم في الصفحات الداخلية تأتي لاستعراض مدى اطلاعهم على الثقافات الأخرى، ومعرفتهم الواسعة بالأدباء والمفكرين الغربيين دون أن يكون لها علاقة بالنصوص التي تتقدمها. ولكن ما إن انتهيت من قراءة الكتاب،الذي كان ثمرة من ثمار الحجر المنزلي، الذي عايشه المؤلف أكثر من ثلاثة أشهر بسبب انتشار فيروس كورونا 19، حتى وجدتني مشدوهًا بهذا الاقتباس من سيوران، لتحققه في أسلوب العامري، ورؤيته للأشياء من حوله.

وإذا كانت عزلة الحجر المنزلي وفرت للعامري أن يضع هذا الكتاب فإن سيوران عانى من العزلة في حياته كلها، وأثمرت إنتاج مجموعة من الأعمال التي تفيض تشاؤمًا وعدمية، من أهمها: «على ذرى اليأس» 1934، و»ورسالة في التحلل» 1965. ولكن ما يميز العامري عن سيوران، كما تقول يومياته التي بين أيدينا، أنه لم يكن يعاني من الأرق واليأس قبل مجيء كورونا،التي جاءت لتحشره بين الجدران الباردة،وليغدو مثل جنين في رحم الحياة. إنه يرفض الصمت الذي يخيم على المكان، ويتمنى أن يصرخ «تحيا الحياة». لقد جعله الحجر المنزلي بعيدًا عن المجتمع والحياة المدنية، وصار يتخوف من الآخرين وكأنهم من أسباب الجائحة، ويرى الأشجار كئيبة لأنها افتقدت عشاقها بعد أت فتكت بهاالعزلة، ويبصر الأشياء باهتة بعد أن ابتعد الناس عن لمسها، ويتخيل الرصيف إنسانًا يتألم؛ لأن المارة والعشاق لم يعودوا يسيرون عليه.

ما يلفت الانتباه أن العامري في كتابه يلتقي مع سيوران في رؤيته للأشياء وطريقة تواصله معها. فللأشياء حضور ماثل،وهي تتبادل الرسائل مع الإنسان لابالكلام بل بالصمت الذي يظهر من خلالالتأمل الباطني العميق، الذي يعتمد على التحديق في التفاصيل الصغيرة، والاقتراب من الأشياء حد الالتصاق جراء الحجر الصحي.إنه يطل على الرصيف، الذي يعده كائنًا له أحلام ومشاعر من نافذة البيت،هذا الحيز المحدود الذي حجر فيه، ثم لا يلبث أن ينكفئ للتأمل والتحديق إلى كل زاوية أو أي شيء في البيت؛ليقدم صورًا غريبة مبتكرة نابضة بالحياة.وهو يحضر في ثنايا هذه الصور؛ فيتمنى، على سبيل المثال، أن يكون مثل تلك الشجرة التي يراها من النافذة والريح تراقصها، ويحاول أن يبدد عتمة الليل بدخان سيجارته الذي بدا خيطه كحبر أبيض سائل، كما أنه يرى الحيوانات وهي تسرح في الشارع لتشمت بالناس الذين تبادلت معهمالأقفاصالتي كانت مسجونة فيها.

وفي البيتيعبث العامري بتفاصيل الأشياء التي يتأملها فمكنسة الهواء طويلة مثل لحيته،وهي تتمدد لتستوي على مقدمة صدره،والأريكة كارهة له لتحولها إلى دابة يركبها ولا يترجل عنها، وأحذيته تنتظر خطاه المكبلة بسبب الحجر،وقدماه مثل دمى تحتاج إلى من يحركهما؛ فهما تعانيان من نسيان المشي أو ما يسميه الكاتب أمية المشي. أما خزانة الملابس لا ضرورة لوجودها؛ لأن الملابس أنهى المكوث في المنزلمهمتها.

هكذا يمضي العامري في كتابه مشتبكًا مع فيروس كورونا، والظروف التي أملتها جائحته عن طريق التأمل ورؤية الأشياء كأنها كائنات حية يحدثها وتحدثه، ويستمع إليها بصمتها الذي لا يصمت. لعل هذه الوسيلة التي عبرت عنها عتبة الاقتباس من سيوران هي التي أعانت العامري على تحمل الحجر المنزلي، وأوحت إليه بوضع كتابه»أحلم بالرصيف» الذي نجح فيه ببعث الحياة في الجماد، وتصوير ليس ما يعتمل في الخارجفقط بل أيضًا ما في الذات من مشاعر وأحاسيس تتعاطف مع البيئة، وتمجد الحرية، وترفض العزلة المطلقة، وتدرك هشاشة الإنسان الذي يحرك الطائرات والبوارج الحربية، ويطلق الصواريخ العابرة للقارات لكنه يعجز عن مواجهة مخلوق خفي،وهو فيروسكورونا 19 ،وصار هو نفسه يتخفى في كمامة وقفازات.

خلاصة القول إن العامري يقدم لنا في كتابه «أحلم بالرصيف» بأسلوب شعري تتزاحم فيه الصور البكر تجربة عملية، تقوم على التأمل والنظر في تفاصيل الأشياء ومراجعة الذات. وقد استطاع بوساطتها التغلب على الظروف التي جاءت بها جائحة كورونا من عزلة وكآبة وتوتر وملل، كما تجلت في هذا الكتاب الماتع والممتع.

 

 

 

المصدر:الدستور 

26 Sep, 2020 11:45:59 AM
0

لمشاركة الخبر