Skip to main content
“العالم في حفلة تنكرية”.. بلاغة الإخبار وسؤال المعنى

“العالَم في حفلة تنكرية” عنوان المجموعة القصصية الأولى لماجد وهيب، والصادرة العام الماضي عن سِلسلة إبداعات في الهيئة العامة لقصور الثقافة، وهو مُستمد مِن عنوان إحدى قصص الكتاب (حفلة تنكرية)، وفيها يحاول عامل بوفيه لَفت نَظر إحدى الموظفات إليه دونما جدوى، حتَّى ينشيء له حسابًا مفبركًا على موقع فيس بوك ويستطيع جذبها إليه، ولكن عبرَ شخصيته الملفقة، وعندما تتعلَّق به وتطالب بلقائه يرواغ حتَّى ييأس ويختفي من الواقع الافتراضي ولا يتبقى أمامه غير تقديم القهوة لها وملاحظة حزنها على الشخص الذي أحبته ثم تبدد كما ظهر مِن العَدم. ربما تكون الحفلة التنكرية في هذه القصة تحديدًا هي الواقع الافتراضي حيث (الناس ع الفيس حاجة وفي الحقيقة حاجة تانية.) بتعبير تلك الموظفة المحبوبة، لكن هذا المجاز يمكن أن ينسحب بتوسُّع على معظم قصص المجموعة، فكأنَّ وجه كل شخصية مجرد قناع لمجاز أو معنى أكبر مِن الوضعية الدرامية للشخصية. لكن التنكر هنا ليس إراديًا، بل رغمًا عن المتنكرين، وليس احتفاليًا أيضًا، بل تكتنفه غالبًا أجواء الوحشة والكآبة والخوف من تهديدات مجهولة المصدر.

صدرت لماجد وهيب روايتان، الثانية منهما قبل نحو أربع سنوات عن دار روافد، بعنوان إخوة الرب، وتتبع فيها مصائر أفراد أسرة مسيحية فقيرة في صعيد مصر، مُستعينًا بأسلوب جزل وأنيق وسلس، يذكّر كثيرًا بأسلوب نجيب محفوظ، لا سيما في بعض رواياته التي يقتفي فيها أثر أفراد عائلة أو مصائر مجموعة أصدقاء، على طريقة “الباقي مِن الزمن ساعة” أو “قشتمر”، على مدار فترات زمنية ممتدة. لكن رغم ذلك لم تسلم روايته تلك مِن بعض الاستطراد والإطالة، وهو ما تخلَّص منه الأسلوب تمامًا في قصص كتابه هذا، وإن ظلَّ متمسكًا بتلك البلاغة الجليلة الفخمة التي كثيرًا ما تتكّل على عبارات مسكوكة جاهزة لنقل فكرة أو شعور، بصرف النَظر عن السياق أو الحالة.

كان الراوي العليم في رواية “أخوة الرب” كثيرًا ما يوجّه الخطاب إلى القارئ مباشرةً، وهو ما تكرر أيضًا في بعض قصص هذه المجموعة، ولو كان الراوي مشاركًا بالضمير الأوَّل، كما في قصة غواية التي تحكي قصة صعود بائع هوى للسيدات القادرات ماديًا ومحرومات جنسيًا. في قصة حفلة تنكرية أيضًا نجد الراوي العليم يظهر فجأة قائلًا: “إذا أردتُ أن أسرد بالتفصيل كيف تطوّر الأمر بينهما سوف أحتاج إلى مئات الصفحات، علاوةً على أنَّ هذا سوف يصيبك بالملل، فلا أظن أنه مِن الممتع أبدًا أن أنقل كل الحوارات التي دارت بينهما على فيس بوك، ….”. ليس هناك ما يوحي في هذه القصة تحديدًا بالرغبة في كَسر الإيهام أو في إشراك القارئ كطرف فاعل في إنتاج لعبة السرد، القارئ هنا أقرب إلى أذن منصتة، أو مستمع افتراضي قد يمل ويجب أن نعتذر منه أو نشرح له سبب الاختصار هنا أو الإطالة هناك.

هذه الاستراتيجية تتفق مع توجُّه عام لقصص الكتاب نحو الإخبار لا الإظهار، فنادرًا ما يعتمد القاص هنا رَسم مشهد بصري واضح التفاصيل لإنعاش خيال القارئ وتحريك حواسه ووضعه في التجربة عبر الوصف والأجواء، لكنه يميل للغة التي توجز التجربة في كلمات قليلة، لغة قادرة بآليات معتَمدة على اختزال وتلخيص حالات وفترات وعلاقات في سطور قليلة، وهي قدرة قد تحمَد للرواية أو القصة في بعض الأحيان، لكن يصعب أن تكون الوسيلة الوحيدة طوال الوقت، فلعلَّ البراعة المتفردة لكل سارد تكمن تحديدًا في المزج الدقيق للمقادير والوسائل المختلفة. غير أنَّ نقطة قوة السَرد في أغلب القصص تتركز في تقنية الحوار، فما إن يتوقَّف الراوي (عليم أو مشارك، لا فرق كبير بينهما في هذا السياق) عن حكي الحدوتة التي لديه لمخاطَبٍ ما مفترض، وما إن تظهر الشخصيات بنفسها حتَّى تنطق وتتكلم وتتحاور فيضيء الحوار بقوة أسلوبية وسلاسة وعذوبة، سواء كان مكتوبًا في صيغة فصحى أو عامية، لكنه يظل موصلًا جيدًا لحرارة الشخصيات وطبيعتها ودافعًا بعَجلة الدراما للأمام ومضيفًا مذاقَ المصداقية والوضوح على جو القصة ككل، ولعلَّ هذا يرجع إلى محاولات ماجد وهيب في مجال كتابة السيناريو، لكن هذا نفسه لا يفسر عَدم اعتماد كثيرًا على الوصف البصري ورسم المشاهِد.

كل تلك الحِيل والوسائل والتقنيات المُشَار إليها، سواء المستمدة مِن الأسلوب المحفوظي المعتمَد أو عالَم السينما، يجتمع لخدمة أهداف واضحة لا لبس فيها، لخدمة طموحات وأسئلة وأفكار قصص الكتاب، التي يمكن تقسيمها عَسفًا إلى قسمين رئيسين وبينهما درجات متفاوتة، يمكن أن نسمّى أولهما بقصص الهَم الاجتماعي، وثانيهما بقصص الرمز أو السؤال الوجودي الكبير، مِن غير أن نغفل بعض القصص التي وازنت بقدرٍ كبير بين هذين القطبين، مِثل أيام الصمت والوِحدة، آخِر قصص المجموعة ومِن بين أعذبها، ربما لهذا السبب تحديدًا، أي لأنها لم تقصر طموحها على أحد الجانبين دون الآخَر.

قصص الهَم الاجتماعي، يدور أغلبها في المدينة وفي شوارعها وعماراتها السَكنية والمقاهي والمواصلات وأماكن العمل واللهو، وترصد في مجملها أحوال البسطاء والمهمشين وحيلهم وسط ظروف شديدة القسوة، وثمة إشارات دائمة لغلاء الأسعار والبطالة والعنوسة والحرمان الجنسي والوحشة والصمت المخيم على الناس بلا سببٍ واضح. وهي أيضًا القصص التي انتفعت بدرجةٍ أكبر بآليات كتابة السيناريو والحوار، ورسمت شخصيات حيَّة وواضحة، مِثل قصة الست نِعمات، التي أتت أقرب إلى دراسة شخصية واختصار لحياتها في محطاتها الرئيسية.

بعض القصص الطويلة في المجموعة كان أقرب إلى معالِجة لسيناريو لم يُكتَب أو ملخص لرواية قصيرة، لاكتنازه بالأحداث والشخصيات والمرور السريع عليها. مِن ذلك قصة غواية التي ترصد حياة بائع هوى، وفيها مِن وجهة نظري مراحل ومواقف ولحظات إنسانية كان يمكن الوقوف عليها طويلًا وتأمُّلها واغتنام كنوزها الصغيرة، لكنَّ الحكاية ككل ورسمها بين قوسين كبيرين كانت لها الغَلبة، وربما بسبب اعتماد بلاغة الإخبار وسيطًا أساسيًا في أسلوب السرد. ورغم ذلك تظل قصة غواية وقصة حفلة تنكرية مِن بين أجمل قصص هذا الفرع أو الكتاب ككل، فحتَّى بينما يركض السارد ليجمل ويوجز يلتقط وكأنما رغمًا عنه لحظات صغيرة فاتنة، مِثل لحظة فوران القهوة التي يعدها عامِل البوفيه للموظفة التي يهيم بها، في نفس لحظة تبادله الدردشة معها على فيس بوك، تزعل منه لأن القهوة مِن غير وش، لكنها تكون مبسوطة من شخصيته الأخرى على فيس بوك، هذا التأرجح المرير بين حياة الواقع وحياة التواصل الاجتماعي المفترض ملعوب هُنا بذكاء وخفة روح وبساطة.

أمَّا القسم الثاني مِن قصص الكتاب فيغلب عليه الطابع الرمزي، إن صحَّ هذا التعبير هُنا، وهو القسم الأقرب إلى الروح المحفوظية، إذ يكاد يختزل لغز الوجود الإنساني في حدوتة صغيرة، مثل أول قصص المجموعة، الرسالة، حيث تصل لرجل لا يقرأ رسالة فيجد أنَّ محتواها يتغير كُلما قرأها له شخص جديد، بحيث يعجز في النهاية مِن الوصول لمعنى أو اتخاذ قرار بشأنها. أو كما في قصة مواطن عادي جدًا، حيث تهديد بالقتل في ورقة معلقة على باب أحدهم، موجه إليه مِمَّن يسمون أنفسهم بأصحاب اليد العليا، يتطور التهديد ليطال جاره الأقرب، وتنتهي القصة بلا تفسير ولا حَسم أيضًا. هذا القسم يحتفي باللغز، لغز وجودنا الإنساني الذي لا حل له، ولا سبيل للتعامل معه إلَّا تقبله والتعايش معه كما هو، سواء كنا مهددين بسيف الموت المسلط فوقنا في كل لحظة، وسواء عجزنا عن تفسير محتوى الرسالة الموجهة إلينا مِن رحم الغيب.

ثمَّة أفكار جديرة بالتأمُّل، في بعض القصص، تخص السُلطة وشكلها والعلاقة معها، تلك السُلطة التي غالبًا ما رُمزَ لها بالعُمدة أو السيّد، فأحيانًا تكون مُتَعيّنة واضحة تستبد بالناس وتلعب بهم، كما في قصة حكاية أولها كذب وآخرها كذل، أو قصة حمار العمدة، لكنها في أحيان أخرى تكون سُلطة خفية غير متعينة، وكأنها قِوى عليا مجهولة تعبث بالناس وبمصارئهم، كما في قصة الشاعر والقنبلة أو مواطن عادي جدًا. هذان الوجهان للسُلطة يستجيبان تمامًا لانقسام هَم وطُموح قصص الكتاب، ويعكسان قلق الكاتب نفسه إزاء الطُغيان والاستغلال مِن جهة وإزاء الموت وعبث الحياة مِن جهة أخرى. وسواء كانت القصص أقرب إلى الهَم الاجتماعي أو السؤال الوجودي، وسواء اتخذت مسرحها في القرية أو المدينة، وسواء رسمت مشاهد بصرية وحوارات حية أو أخبرت عن حياة كاملة في بضعة سطور، فإنها تبقى قصصاَ إنسانية بامتياز، تكترث بالإنسان ومحنة وجوده أولًا وأخيرًا، ولا تفرق في ذلك بين قسوة الجوع والحرمان والوحدة وبين حيرة السؤال عن معنى الموت والوجود. 

 

 

 

المصدر:الكتابة 

07 Oct, 2020 03:06:14 PM
0

لمشاركة الخبر