Skip to main content
د. نادية هناوي التاريخ وتعدده النظري

 د. نادية هناوي التاريخ وتعدده النظري

 

مرَّ مفهوم التاريخ بمراحل تطور فلسفية عديدة، وجه عبرها المهتمون من المؤرخين والفلاسفة والنقاد أقلامهم صوب المدونة التاريخية قالبين ومفكيكين ومتسائلين ومشككين بغية الوصول إلى ما سكتت عنه التواريخ وما لم تدونه أو ما تناسته وأغفلت أرشفته، كي يقوموا هم بالتركيز عليه وإظهاره للعيان كانتصار لما هو مطمور ومغيب وكانحياز لما هو مقصي أو مهمش وكإظهار لحقائق أخفاها أولئك الذين دوّنوا التاريخ فذكروا أحداثا وغيبوا أخرى وأضافوا لما وقع ما لم يقع أو بالعكس حذفوا كلا أو جزءا مما وقع أو جسدوا ما لم يحصل أصلا وربما دونوا أحداثا لم تقع وبالشكل الذي يلائم أهواءهم وأيديولوجياتهم.

وللتاريخ موقع في حياتنا وإليه نعود في فهم حاضرنا وذلك بناء على آليتين حددهما المفكر عبد الله العروي، الالية الأولى واعية بالتاريخ والثانية راغبة في محوه والتغلب عليه. ولئن صرنا ننظر للتاريخ على أنه الحقيقة، غابت عنا معلومة مهمة هي أن الفيلسوف هو عاشق الحقيقة الدائمة الذي قد يتعارض وقد يتكامل مع المؤرخ راوي الحدث ومدونه.

وللتاريخ العربي عند عبد الله العروي ـ فلسفات متعددة مفترضا أنه إذا لم تكن للعرب مأساة ولا ملحمة، فأن التأليف التاريخي هو مأساة العرب وملحمتهم، مفرّقا بين التاريخ العام والتاريخ المحفوظ فـ( التاريخ العام هو مجموع الأحوال التي عرفها الكون حتى اللحظة وأن التاريخ المحفوظ هو مجموع ما يعرفه المؤرخ في اللحظة) وبهذا يصبح منتج التاريخ ـ في منظور التاريخانية الجديدة ـ مشكوكا في نزاهته ومطعونا في حياديته ومتهما في موضوعيته على أساس يعطي للقارئ دورا جديدا فهو ما عاد مصدقا بالتاريخ أو مقتنعا به. والسبب أن اليد التي كتبت التاريخ هي يد مؤرخ نقل عن راو كان قد سمع بالحادثة التاريخية وربما رآها ثم تدخلت المخيلة سهوا أو توهما وبوعي أو بغير وعي فحرّفت الحادثة أو سردنتها لتجري على غير ما كانت قد حصلت فعلا ؟!!

إن رؤية الماضي بوقائعه وأحداثه إنما تقبع وراء النص لا وراء الزمن وأن الوقائع التاريخية ليست سوى حكاية أو رواية يتم التركيز على سرديتها بغض النظر عن إخباريتها أو مرجعياتها صدقا وزيفا سياقات وإحالات. ومعلوم أن تداخل الأدب بالتاريخ يعد من نتاجات ما بعد الحداثة التي ألغت الحواجز والحدود بين المعارف والعلوم متجاوزة شعرية أرسطو التي أقامت حدودا بين الأدب والتاريخ معلية من شأن الشعرية ومنحية التاريخية جانبا، مؤمنة بان الشعرية تعني النص بما فيه من أبنية أفقية وشاقولية كما تهتم بما بعد النص من انساق ذات مستويات واتجاهات ومديات غير محددة في اجناسيتها وتطورها.

ولقد تعدت شعرية تودوروف مرحلة الحداثة إلى آفاق ما بعد حداثية أرحب، تتصل بالخطاب لا النص، منتقلة إلى مقاربة الشعرية بالعلوم الأخرى متجاوزة النظرة الشكلانية والبنيوية إلى الدلالية والتلقي، حيث النصوص غير الأدبية تقوم بدور مصيري في تكوين عمل أدبي ما. ومما أكده تودوروف هو حتمية تداخل النصوص وتحويليتها من خطاب إلى آخر كي يختفي التعارض المفتعل بين البنية والتاريخ فلا يمكن أن نصف التطور الأدبي إلا في مستوى البنى. ومعرفة البنى لا تحول دون معرفة التحويلية أدبا والأدب تاريخا انطلاقا من منظومة مفاهيمية اجترحها منظرو مرحلة ما بعد الحداثة ومنها مصطلح التمثيل الذي به يستعين المؤرخ وهو يبني نصوصه الوثائقية ويدوّن أحداثها بأساليب السرد بغية أرشفتها ليكون الناتج أرخنة سردية، كما أن الأديب بإمكانه أن يوظف التاريخ في شكل مسرود ليكون الناتج سردا مؤرخنا.

وقد نخطئ إذا خمَّنا أن التمثيل هو الوسيلة الوحيدة في كتابة التاريخ لأن هناك وسائل أخرى كالمجاز والاستعارة. ولقد رفض بول ريكور مصطلح التمثيل وجعل بدله مصطلح الاسترداد حيث الترميم أو إعادة البناء هي بناء مختلف عن سياق الأحداث المروية. ويعد النقد التفكيكي الأكثر نسفا للتاريخ الرسمي كونه يبغي إحلال سرد تاريخي محل تاريخ أدبي وتاريخ محكي محل تاريخ مؤرشف والسبب أن التاريخ ما عاد هو الماضي أو السجل كما كان ينظر إليه في ما قبل عصر النهضة وما بعدها، وإنما أصبح تاريخ مسرودات صغرى لا تمت للماضي بصلة فحسب، بل هي متداخلة ماضيا وحاضرا ومستقبلا. وصحيح أن التشكيك منهج ينتمي إلى مرحلة الحداثة لكن أساساته تعود إلى الفيلسوف ديكارت وعليها بنى طه حسين نظريته في الانتحال لكن التشكيك في ظل منظورات ما بعد الحداثة أمر آخر. إنه أداة من ضمن أدوات متعددة نظَّرت لها وطورتها تفكيكية جاك دريدا وبول دي مان وجيمس ميللر وهارولد بلوم وغيرهم لتطبق في مختلف ميادين المعرفة ومنها غربلة التاريخ لا بوصفه نصا بلاغيا أو سرديا بل بوصفه نصا ثقافيا. وبالعموم صارت التواريخ الإنسانية على نوعين : الأول تمثله التواريخ العامة أو الرسمية العامة والمعلنة وهي تمثل دائما وجهة نظر السلطة العليا المحققة لأهدافها ومبتغياتها.والنوع الآخر تمثله التواريخ المحكية التي هي في الغالب تواريخ الفئات المضطهدة والمغلوبة التي انتهكت السلطة حقوقها وسعت إلى تغييبها وتهميشها عاملة على طمس انجازاتها أو إلغاء حضورها في المشهد التاريخي أو التقليل من دورها وتحجيم أثرها في صعود بطولات أفراد تلك السلطة. وهذا ما يجعل أبطال التاريخ المحكي غير أبطال التاريخ الرسمي فهم حقيقيون وشعبيون تحفظهم الذاكرة الجمعية وتتناقلهم الأجيال جيلا بعد جيل بصورة لا شعورية.

وقد تكون بطولات التاريخ المحكي جماعية كأن تكون شعبا أو طبقة أو فئة أو قومية ناوأت الظالم وقاومت المغتصب في سبل إثبات وجودها وهويتها.وهذا النوع الأخير هو الذي يحتم علينا ألا نقرأ التاريخ بمعزل عن أدوات السرد وألا نقرأ السرد بمعزل عن أدوات التاريخ.

ولا خلاف أن في هذا الفهم ما بعد الحداثي لتعالقية السرد بالتاريخ إفادة للتاريخ كونه سيتحرك بدرامية فلا يعود مجرد ماض مدوّن ومؤرشف؛ بل هو ممتد ونابض بحيوية كما أن السرد نفسه سيتعلمن بالمعطيات التاريخية مموضعا مفاهيمه التخييلية ومطوعا آلياته الواقعية لتتعدى ما هو سردي إلى الميتا سردي كتمثيل على مناطق الهيمنة الأبوية للتاريخ الرسمي سواء في الاستحواذ على الهويات أو في تغييب النسوية أو الاضطهاد العرقي وغير ذلك من الظواهر الثقافية التي تترشح إلى المركز في ظل العولمة وتبعاتها، فضلا عن إمكانية تجاوز منطقة النص السردي إلى منتج هذا النص وقارئه بحثا في نوايا مؤلف التاريخ واتجاها نحو توسيع أدوار القارئ عبر المشاركة في بلورة التأويلات وصياغة الاحتمالات وترجيح الآراء دحضا أو توافقا..

ولعل من مسوغات هذا التجاوز من النص إلى المؤلف ومن المؤلف إلى القارئ أن النية التي هي المقصد والبغية وقد يصرح بها المؤلف وقد يضمّنها في المتن أو الحاشية.هكذا ما عاد القارئ مفوضا أمره إلى الناقد ولا موكلا مهمة التحصيل المعرفي للتاريخ وظواهره وقضاياه؛ بل هو اليوم يراوغ الناقد ويشاكسه بغية التشارك والإنتاج.

 

 

 

المصدر:الدستور 

11 Oct, 2020 11:53:31 AM
0

لمشاركة الخبر