Skip to main content
د. مهند غازي الزامل المزاج الفكري الثقافي

 د. مهند غازي الزامل المزاج الفكري الثقافي

 

يَسْبِقُ إلى ذِهنِ القارئ أنّ هذا التعبير هو من قبيلِ المبالغة الأدبية الطريفة، وهي أمْرٌ ليس مُنْكرًا ولا شاذًا في عادات الكتابة والتأليف، ولكني أرجو بأنّ عندما يفرُغُ من تناول هذه الحروف، وتأمَّلَ ما جاء فيها، سيتأكَّدَ – حينها – أنّ وَصْفَ هذا الجُهد التخريبي المُوجَّه إلى التراث في الأوقات المتأخّرة؛ بأنّه (غارة)؛ هو تعبيرٌ حقيقيّ، وليس بلاغيًّا، وأنّ غالبية حروف هذا المقال، هي بمثابةِ الحوارات الفكرية دِفاعًا عن تراث الأمة.
إنّ الاتجاه السائد اليوم نحو (تخريب تراث الأمة)، وتزويره، وتشويه صورته، ليس مجرّد مجهودات فردية موتورة، يدفعُها التّعصُبُ الأيديولوجي، أو الخصام الحضاري لظاهرة الصحوة الثقافية الشابّة، وإنّما هو اتّجاه مُنظمٌ، ويسير وُفقَ خُططٍ مرسومة بدقة.
إنّ هذه الكلمات تهدفُ إلى إيصالِ رسالة فكرية عاجلة إلى كافة الفعاليات المخلصة في الأمة، لكيّ تتعاون الجهود وتتآزر؛ مِن أجْلِ دَحْرِ هذه الغارة الموتورة على تراثنا الثقافي، وتبصير الأمة بما يُرادُ فِعلُه في ذاكرتها العِلمية والتاريخية.
إنّ تراثَ الأمة، يُمثِّلُ حصادَ تفاعلها الإنساني – على مرِّ التاريخ – مع الوجود كلّه، مع الدِّيانات والعقائد والفلسفات، مع الآدابِ والمعارفِ والفنون، مع الزمن، مع الطبيعة المادية والجغرافية والتاريخية، مع الأمم الأخرى، على اختلاف مواقفها، وخصائصها وكل ما يتخلّف عن هذا التفاعل المعقَّدِ من نتاجاتٍ متعددة، تعبِّرُ عن (المزاج النّفسي الفكري) لهذه الأمة، على مستوى الفرد، كما على مستوى البيئة المجتمعية، وتُدللُ أيضًا على عُمقِ وجوده في الأمة، وقوة هيمنته على نشاطاتها، وهذا المزاج النّفسي الفكري، هو الجوهر الحقيقي الذي يُمثلُ الهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم ، وهذا (الجوهر) الثقافي والحضاري ينتمي إلى هوية ثقافية وحضارية مُتميِّزة ٍ، ذاتُ مُقوِّماتٍ أصيلة هي بمثابةِ العُصارة لضميرِ هذه الأمة.
إنّ أيّ محاولة ٍ تُجاوُزُ حدودها، أو تغييرِ صبغتها أو تحرير روحها العامّة؛ ثمثِّلُ نوعًا من الهدمِ والتخريبِ لهوية الأمة، ومن ثمّ هَدْمِ التخريبِ لوجودها الإنسانيّ المتميِّز، ويُصبح مثلَ هذا التخريب تُقدُمةً ضرورية تُفضي إلى ذوبانِ هذه الأمة بأجيالها الجديدة في هويِّاتٍ ثقافية ومنظوماتٍ حضارية أخرى.
إنّكَ تستطيع أن تَنْتَقِدَ نَتاجًا فكريًّا أو أدبيًا أو فنيًا أو مذهبيًا مُعَيّنًا، مما يُمثلُ تجلِّياتٍ ومظاهرَ للهوية الثقافية للأمة عَبْرَ مجهوداتِ أبنائها، على اختلافِ تخصصاتهم وتوجهاتهم، وتستطيع أن تتجاوزه كذلك، ولكنك لا تستطيع أن تتجاوز الجوهر أو المزاج النفسي الفكري الذي يُمثِّلُ هوية الأمة الثقافية إلا إذا انتزعتَ نفسك من هذه الهوية وتلاشيتَ في هوياتِ أممٍ أخرى.
وترجع القيمة العُليا لهذه (الهوية الثقافية) في كونها ثمثل (الميزان) الضابط للمسار الإبداعي في الأمة، على مختلف الأصعدة، عقائديّا، وفكرياً، وقيميًا، وأخلاقياً، وتنظيميًا، وتشريعيًا، وأدبياً، وفنيًا، ومدنيًا كذلك،، وسواء كان هذا الإبداع تفجًرا ذاتيًا في الأمة من خلال تفاعلها المستمر مع نفسها ومع تحدِّياتها التاريخية، أو كان ناتجًا عن تمازج بين عطاءاتها وعطاءات أممٍ أخرى.
إنّ هذا الميزان الضابط، هو الذي يُحدّد ما إذا كانت هذه الفعالية الجديدة، متآلفة متجانسة مع المزاج النفسي والفكري العام للأمة بحيثُ تؤدي إلى دَفعِ طاقات القوة في بُنيتها المجتمعية ومسيرتها الحضارية، أو أنّها متنافرة وشاذة عن المزاج النفسي والفكري العام للأمة، يحثُ تصبح عُنصَرَ قلقٍ واضطرابٍ في بُنيتها المجتمعية وعاملَ إحباطٍ وَضَعْفٍ في طاقاتها الفاعلة نحو السَّبْقِ الحضاري. وأحيانًا : تكشفُ عمّا يحمله هذا الجديد من (سموم) خطيرة فتّاكة تكون مُتخفيّة في أجواء ٍمُبهرة، وعباءاتٍ مزركشة وأطباقٍ من العسل اللذيذ ! ولا شكّ أنّ مثل هذا (الفرز) الفاحص لكُلّ ما هو وافدٌ تتضخمُ قيمته عندما تكون الأمة في حالٍ من الضعفِ والتفككِ تطمع فيها الأمم الأخرى، ويجعلها عُرضة مستمرة لمحاولاتِ نفاذ وغزوٍ حضاريّ وثقافيّ متنوعة ومُلحة ٍ.
فإذا انتقلنا إلى حالنا نحنُ، كأمة ذاتِ خصوصية ٍحضارية، وهوية ٍثقافية؛ فلن تَجِدَ مُنصِفًا عاقلًا يُنازعُ في أنّ (الإسلام) هو المزاج النفسي والفكري المشترك، والجوهر المتميِّز، في حياة الإنسان المسلم ومجتمعه، وعلى مدارِ تاريخه الطويل الفعّال والمؤثر في المسار الإنساني العام.
ويستطيع المتأمّل – قليلُ تامُّلِ – في كافة النتاجات والإبداعات التي أفرزها الوجود الإسلاميّ الطويل في الفكر والتصور وفي القيم والأخلاق وفي النُّظم والتشريعات، وفي الآداب والمعارف والفنون، وغير ذلك، أن يُلاحظ هذه الحقيقة، وهي أنّ الإسلام هو (الهوية الثقافية) المميزة لهذا النشاط الإنسانيّ الواسع.

 

 

المصدر:الدستور 

13 Oct, 2020 12:47:20 PM
0

لمشاركة الخبر