Skip to main content
أحمد بشير العيلة  حالة واشنطونيا  

 أحمد بشير العيلة حالة واشنطونيا

 

 

لم تكن تعرف اسمها وهي تقترب نحو نافذتها رويداً رويداً، كانت ابتسام عبد المالك صغيرة لم تتجاوز الخمس سنوات حين انتبهت لوجود نخلة صغيرة غريبة ذات أوراق مروحية واسعة أسفل نافذتها المفتوحة على أفق الدور الثالث، والنخلة لم تزل مروحياتها تهز هواء نافذة الدور الأول، ولم يكن لابتسام أي علاقة وجدانية بهذه النبتة التي ظلت تطول وتبسق كلما كبرت ابتسام، كل ما تعرفه هو أنها من نخيل الزينة فلا ثمار بلحٍ لها، لذلك لم تعطيها تلك الأهمية، وكلما اتسعت مداركها وازداد وعيها ظلت تلك النخلة في مكانها لم تكبر في وعيها وظلت صغيرة القيمة في معرفتها ومداركها.
***
مرت سنواتٌ وسنوات، ونخلة الزينة مروحية السعف ترتفع حتى لامس ورقها نافذتها بعد خمسة عشر عاماً فهي الآن ابنة العشرين الجامعية، تعيش مع والديها حياة متزنة وهي عادة تميل إلى العزلة ولا من صديقات لها سوى واحدة دائمة السؤال عنها، وأخرى تكلمها من مناسبةٍ لأخرى، لكن النوافير الملونة في روحها بدأت تفور فتشتاق لمجهول لا تعرف من هو، لدرجة أنها سألت نفسها ذات نظرة لمرآة:
- هل هذا الشوق الباذخ لإنسان أم لكائنٍ آخر، مثل ماذا يا ابتسام؟
سمعت لحظتها حفيف مروحية النخلة وهي تحتك بجدار نافذتها، شيءٌ ما أوقع الخوف فيها..
- هل فعلاً شعرت بي هذه النخلة؟ نعم .. نعم يقولون إن النباتات لها مشاعر..
انتبهت لنفسها أنها في غرفتها شبه عارية، بسرعة غطت كتفيها وصدرها بشالها المزركش كي لا تراها النخلة، بل وأسرعت نحو النافذة وأغلقتها وهي تتساءل، هل هذه النخلة مذكرة أم مؤنثة، وانهمكت تبحث لأول مرة عن نوعها واسمها وهل هي ذكر أم أنثى، وويلها لو كانت النخلة ذكراً ورأى ما رأى!
عرفت من الكتب التي بحثت فيها أن اسمها (واشنطونيا) كرهت الاسم لأنها تكره أمريكا، لكنها احتجت في داخلها على أمركة النبات..
- حتى النخيل أمركوه..
لكنها عرفت من بين المعلومات أنها قد جاءت من جنوب كاليفورنيا، وجنوب غرب ولاية أريزونا..
- آه جدك أمريكي يا نخلتي، أكره أمركة النبات ولو تيمناً بقائد مثل جورج واشنطن، لن أقتنع باسم واشنطونيا، سأسميكِ أستاذة مراوح لو كنتِ أنثى، ولو كنتِ ذكراً سأسميكِ سأسميكِ: حبيبي سامر، نعم لم لا، حبيبي سامر قوي واثق مرتفع، نعم حبيبي..

 

 

 

المصدر: الدستور 
اختلطت عندها الأحاسيس بين بهجةٍ وخوف وارتباكٍ من سامر الذي تطل نافذتها عليه في كل الأوقات بل لا توجد مسافة بين النخلة سامر والنافذة.
***
مرت فترة لا يمكنها تغيير ملابسها والنافذة مفتوحة، فالنخلة قد تكون ذكراً واسمه سامر، ظل قلبها ينبض بشدة كل ليلة كلما سمعت سعف سامر المروحي يحك في حواف النافذة، كأنه ينادي، بل حاولت ابتسام مراراً أن تفتح نافذتها الحصائرية قليلاً لتنظر خلسة إلى سامر وهو يفرك الحائط وحواف النافذة بشبق كاد أن يلهبها، حتى أنها تشجعت وصارت تغيّر ملابسها وقد تعمدت فتح النافذة ليرى سامر فتنتها.
- اقفز من النافذة يا سامر..
لكن سامر لم يدخل، كان أكبر بكثير من النافذة، ما الحل وولهها يزداد؟، تتجه نحوه ولا تملك إلا أن تداعب السعف بِرقة كادت النخلة أن تركع على ركبتها من شدة الذوبان.
وازداد عشق ابتسام لسامر، فيما أسمت حالتها بينها وبين نفسها (واشنطونيا)، وعرّفتها، وهي التي تخصصت في علم النفس، بحالة عشق المرأة لنخلة، ربما التعريف غير علمي، إلا أنه يرضي تساؤلاتها المتكررة عن هذا العشق.
- هل يدرك سامر ما أنا فيه، لا أدري، هو في النهاية نخلة، يقولون أن الكلمة روح، بل أن كلمة الحب روحٌ مقدسة، والروح المقدسة تتجاوز الإنسان إلى كل كائن، لذا سأكتب وأكتب كل مشاعري لسامر.
كل يوم تدس ابتسام رسالة قصيرة صباحية بين براعم عشيقها، خواطر وقصائد ومناجاة ولا أرق من فتاة عاشقة إلى حبيبٍ لا يفقه قولها، امتلأت ذؤابة النخلة برسائل العشق التي تصر على كتابة اسمها كاملاً بل وعنوانها في الدور الثالث أسفل كل رسالة، لأنها تعرف أن لا أحد سيراها.
***
مرت سنوات وسنوات، والنخلة ارتفعت، بل وابتعدت عن النافذة كثيراً، وظلت ابتسام على حالها وهي الثلاثينية الآن، تعصر العمر دمعةً دمعة ولم يطرق على بابها إنسيّ، حتى مروحيات سامر ابتعدت للأعلى ولم تعد نافذتها تطل على رأس النخلة العامر برسائل العشق، بل قابلها جذعٌ لا ورق فيه ولا لغات.
***
رأس النخلة الآن يحتضن نافذة الدور الخامس، حيث غرفة رجلٌ أربعيني سكن العمارة مؤخراً، لا يعرف السكان عنه شيء سوى أن اسمه مهندس صالح، وما أدراك من مهندس صالح، رجلٌ ضاع عمره في العمل بلا حدود، واستفاق على نفسه فجأة وإذ به فارغٌ تماماً من الأفرع والجذور، ماتا أبواه، وتزوج إخوته وأخواته وابتعدوا عن المدينة، كره بيت العائلة من وطأة الذكريات، فباعه وقسّم ثمنه بين الورثة، وما تبقى له اشترى به هذه الشقة، واختار هذه الغرفة التي تطل على نخلة الواشنطونيا.
كان صالح وحيداً تماماً، والوحدة تصنع ما لا يمكن للعقل أن يتصوره..
- أيعقل يا صالح أن تعشق نخلة ويرف قلبك كلما سمعت حفيف سعفها يمسح نافذتك، اعقل يا صالح.
انتقلت إلى صالح حالة (الواشنطونيا)، ولا يمر صباح إلا وهو يرتشف فنجان قهوته على حافة النافذة، آملاً أن تقول له النخلة التي أسماها نور:
- يسعد صباحك.
لا حظ في أحد الصباحات وجود كمشاتٍ من الأوراق بين الكرانيف الجافة لسعف النخلة، مد يده بحرصٍ كلا لا يصيبه شوكها القاسي، التقط ورقة مكرمشة، سحب نفسه بسرعة، وفتحها:
«حبيبي
أتعبتني الوحدة، ادخل من نافذتي لتملأني بالدفء، أحتاجك...
ابتسام عبد المالك
عمارة الأندلس / الدور الثالث»
- يا إلهي هل استجابت النخلة نور أم هناك بالفعل عاشقة اسمها ابتسام عبد المالك؟.
تشجع أكثر، ومدَّ يده نحو الكرانيف ليلتقط كومات الأوراق المدسوسة، وإذ برسائل العشق تتفتح في قلبه قبل يديه واحدة إثر الأخرى، أكثر من ثلاثين رسالة ملأ بها غرفته، فبدا سطح الغرفة كحوض قرنفل مملوءٌ عن آخره بألوانٍ من الزهر، أقصد؛ من رسائل العشق.
***
انتظر مع ليلٍ طويلٍ لم ينجلِ إلا بعد نفاذ صبر حتى جاء الصباح أخيراً، نزل مسرعاً على الدرج، توقف أمام الشقة المناظرة في الدور الثالث، مشى خطوات مضطربة في الممر أمام شقة ابتسام...
- العنوان نفسه..
نزل أسفل العمارة، وتشجع في سؤال أحد الجيران..
- لو سمحت، صباح الخير.
- صباح النور..
- هل تسكن في هذه العمارة امرأة اسمها ابتسام عبد المالك؟
- نعم، في الدور الثالث.
هي إذن، ما تزال تسكن الدور الثالث، انتظر حتى الظهيرة، وطرق الباب، وسمع الجواب..
***
في أول الأعياد قدّم صالح هديةً لخطيبته، صندوقًا مغلفًا بمهارة، فتحته، ففاض برسائلها التي كانت ترسلها لعشيقها النباتيّ، فتحتها، صدمتْ، كادت تفقد الوعي، ابتسم، ظنّته سامر وظنّها نور.. تعانقا عناق نخلتين لم ينفصل جذعاهما حتى هذه اللحظة.

25 Oct, 2020 10:51:42 AM
0

لمشاركة الخبر