طه حامد الشبيب شعرية العمى في الخطاب الروائي
تقودنا رواية «عن لا شيء يحكي» للروائي طه حامد شبيب 2019، إلى الحديث عن شعرية العمى (Poetics of Blindness)، كما تتجلى في الخطاب الروائي في عدد من الروايات العالمية والعربية، منها رواية «بلاد العميان» (Country of the Blinds) للروائي ه. ج. ويلز المكتوبة عام 1904، ورواية «العمى» للروائي البرتغالي ساراماغو، الحائز على جائزة نوبل للآداب، وسرديات الروائي الأرجنتيني المعروف بورخيس، فضلاً عن روايات عربية متفرقة منها للكاتب الكبير طه حسين «الأيام»، ورواية نبيل سليمان الموسومة «تاريخ العيون المطفأة» وغيرهما.
في هذه الروايات تكون الشخصية المركزية أو بطل الرواية شخصية عمياء، وقد يكون مؤلفها أعمى، كما هي الحال في حالتي بورخيس وطه حسين. وتظل الإشكالية المركزية تتمثل في رصد كيفية تعامل البطل الأعمى مع العالم الخارجي، وما هي المجسات التي يمتلكها، والتي تمكنه من إدراك المحسوسات والمرئيات والمجردات المحيطة به، والتي تؤهله لتجاوز هذه الحالة والتكيف معها. وهنا تتجلى مقدرة الروائي لسردنة حالة العمى، وردود أفعالها، وموصوفاتها، لبناء بنية سردية دالة تمتلك مقومات شعريتها الخاصة.
وتنهض رواية «عن لا شيء يحكي» على قاعدة بناء الشخصية المركزية (Protogonist) في الرواية لحمادي الأعمى، الذي لا يمكن أن نصفه بالبطل (Hero)، وإنما بشكل أدق بالبطل المضاد (Anti Hero)، لأنه بسبب عماه لا يمتلك مؤهلات البطل المعروفة، لأن العمى يفرض عليه مجموعات من الإكراهات والمحددات التي تحجّم مواصفات الشخصية الروائية، وتشكل صورة البطل فيها. لكننا سنكتشف أن حمادي، البطل الضد في هذه الرواية يتحدى عماه، ويحاول أن يخلق له بديلاً سردياً، عندما يصبح رائياً في عتمة العمى، حتى أنه بامتلاكه للبصيرة (Insight) التي يفتقد لها البعض يصبح قادراً على اكتشاف حقائق غابت عن الكثير من المبصرين.
يستهل الروائي سرده، دونما مقدمات أو تمهيد، ويضعنا داخل الحبكة السردية الأساسية للرواية: «بعد كأسه الثانية، انقلب كلامه إلى الفصحى. هكذا هو حمادي: حين ينتشي، مجرد انتشاء، وحتى قبل أن يثمل، يصير يتحدث الفصحى، ممزوجة ببعض العامية»، (ص ٥). والحبكة في الرواية هي لعبة سردية متقنة بين طرفين: حمادي الأعمى وأربعة من شباب المدينة الذين أصبحوا ندماءه اليوميين، أثناء جلسات سمرٍ متواصلة يروي لهم فيها حمادي حكايته الطويلة، التي يعترف أنها حكاية «عن لا شيء».
وثنائية الراوي والمروي له هنا تذكرنا بثنائية السرد في «ألف ليلة وليلة»، حيث ثنائية شهرزاد/ الراوية، وشهريار/ المروي له. وإذا ما كانت شهرزاد تحكي لتضمن سلامتها وسلامة بنات جنسها من سيف الجلاد، فإن حمادي يحكي لأنه كما قال مرة يريد أن ينفّس بذلك عما يكتم على أنفاسه من كوابيس وضغوط ومخاوف: «صدري راح يطق إذا ما راح أحكي هسه» (ص٢٩٢).
في حكايات حمادي المتصلة عن حياته وأسرته ومدينته الافتراضية، يوظف الراوي حمادي لغة «مهجنة» تجمع بين الفصحى والعامية. ففي الظروف الاعتيادية يتحدث بلغة أقرب ما تكون إلى اللغة اليومية المحكية بما فيها من أمثال وكلمات شعبية دارجة، ولكنه عندما يشرب كأسه الثانية ينتقل إلى اللغة الفصحى التي تعلمها من الكتاتيب ومعلمه الشيخ موسى، حيث حفظ القرآن الكريم، وكذلك من الاستماع إلى الإذاعة التي يسميها بـ«الراديون».
وسرد حمادي الحكائي، بفضل هذه المزاوجة بين العامية والفصحى، ومخاطبته المباشرة، وجهاً لوجه، للمروي لهم من ندمائه الليليين الأربعة، هو سرد شفاهي في الغالب، يحمل أهم عناصر السرد الشفاهي مثل التكرار، والتلعثم والتأتأة، والوقفات والنسيان، وأحياناً توجيه أسئلة لندمائه، مثل لازمة «يعني شنو» (ص 10)، ولغرض ربط الحكاية المنقطعة بعد توقف غالباً ما يقول: «المهم، خلوني أرجع للحكاية أخوان...» (ص 247).
ومن خلال الحكي الشفاهي لحماي يتشكل لدينا تاريخ مدينة، بل تاريخ العراق، في أصعب حلقاته، حيث تتحول الرواية إلى مرموزة أو «أليغوريا» (Allegory) عن تاريخ العراق السياسي بعد ثورة الرابع عشر من يوليو (تموز) عام 1958، حيث تمثل المرحلة، التي كان فيها القائمقام الذي تعرض إلى محاولة اغتيال فاشلة يدير المدينة، تمثل الفترة الأولى من سنوات «ثورة تموز» التي دامت أقل من خمس سنوات. أما الفترة الثانية فتمثلها مرحلة الانقلابات الفاشية بدءاً بانقلاب الثامن من فبراير (شباط) 1963 حتى سقوط نظام صدام حسين الدموي. كما يمكن الترميز لهذه المرحلة السوداء من الديستوبيا العراقية بفترة هيمنة عصابات «داعش» الدموية على أجزاء عديدة من التراب الوطني العراقي بعد عام 2014.
إن السرد الروائي في هذه الرواية هو نتاج مخيلة افتراضية جامحة، يمتلكها حمادي، البطل المضاد، ويستطيع من خلالها أن يستجمع كل قواه الكامنة والظاهرة، ليعيد بناء صورة العالم رمزياً. وهذه المخيلة لا تشعر بالمتاهة والضياع بسبب العمى فقط، بل تعاني من اضطراب في الرؤية، ومن رضوض عصبية، وربما من حالة فصام شيزوفريني، تجعل حمادي يتخيل أشياء لم تحدث قط على أرض الواقع، فيرسم عبر مخيلته وخربشات عصاه على التراب صورة العالم الخارجي كما يتخيلها، ويتفاعل معها بحس إنساني عالٍ وإيجابية تتفوق على أحاسيس الكثير من الناس الذين بصق في وجوههم، لجبنهم وخوائهم وتخاذلهم وعدم قدرتهم على مواجهة السفلة والأوباش، الذين تحداهم بصرخته العالية، محرضاً على التمرد والثورة ضدهم: «ألعن أبوكم، وأبو كل من يخاف منكم، يا سفلة» (ص 317).
رواية «عن لا شيء يحكي» مكتوبة بذكاء ومهارة وحرفية. فشخصية البطل المضاد، حمادي، تبدو في البداية، في الرواية هذه، مجرد «بياض دلالي»، شأنها شأن أي علامة سيميائية، إلّا أن هذا البياض الدلالي سرعان ما راح يمتلئ من خلال الحكي الذي كان يسرده حمادي، وهو سرد مبار، ينطوي على حكايات من الدرجة الأولى تتعلق بشخصيته، فتشكل لوناً من السرد الذاتي الأوتوبيوغرافي، كما ينطوي على سردٍ على حكايات من الدرجة الثانية عن شخصيات أخرى. وهكذا راحت تتكامل شخصية حمادي، ليكون شخصية نامية (Round Character) مهيمنة على الحدث الروائي نفسه، وهي خاصية تتجلى عادة في رواية الشخصية. فعلى الرغم من وجود أصوات سردية بوليفونية أخرى هي أصوات ندمائه الأربعة، الذين كانوا يعبرون عن حضورهم من خلال سرد عبر ضمير المتكلم الجماعي (نحن) تارة، أو عبر ضمير المتكلم (أنا) تارة أخرى، فضلاً عن أصوات أفراد أسرته، إلّا أن سرده الحكائي ظل هو المهيمن على البنية السردية في الرواية.
وإذا ما افترضنا أن غرفة حمادي، التي كان يسرد فيها حكاياته لندمائه الأربعة، هي البنية الإطارية المكانية المتخيلة في الرواية، فإن مخيلة حمادي، بكل ما فيها من تشوش واضطراب وتداخل وفوبيا، هي بنية إطارية افتراضية أخرى، فجاء السرد التخيلي هذا معطوباً سيكولوجياً، إلى حدٍ كبير، لكنه يمتلك دلالاته الرامزة العديدة.
إذْ بدت الأزمنة متداخلة هي الأخرى. فعلى الرغم من حضور البنية الزمنية الخطية المتصاعدة للزمن السردي في الرواية، إلّا أن أحداث الراوية كانت تتقاطع وتتراجع، أو تتقدم على خط الزمن. فقد ظل الماضي حياً في مخيلة حمادي، إذْ يخيل إليه، وهو ابن السبعين، وقد نادت عليه أمه، المتوفاة أصلاً، لكي يدخل وينضم إلى سفرة العائلة.
في هذه الرواية، نجد خلطاً بين ما هو واقعي، وما هو افتراضي، ويظل القارئ في شك فيما إذا كانت الكثير من الأحداث التي يرويها حمادي حقيقية أو وهمية وافتراضية.
ويمكن القول إن كل السرد الذي قدمه حمادي في الرواية هو سرد تخييلي واستيهامي ليس إلّا، وأن السرد الواقعي الموثوق به هو السرد الذي يقدمه ندماؤه الأربعة، خلال جلساتهم الليلية مع حمادي، وبشكل خاص المشهد الأخير الذي نجم عنه قتل كلبة حمادي الأثيرة وجرائها على أيدي «المسلحين السفلة».
رواية «عن لا شيء يحكي» رواية كابوسيه بامتياز، وهي أيضاً لون من الكوميديا السوداء، التي تصف عالماً ديستوبياً (Dystopia) قذراً ومتجرداً من الإنسانية.
لقد استطاعت الرواية أن تخلق شعريتها السردية الخاصة التي تنتمي إلى شعرية العمى والمتاهة والظلام، وتصنع من «اللا شيء» حكاية حقيقية، تمور بالحياة والمعاناة، ومروية مدركة، بوصفها تراجيديا من تراجيديات الواقع السياسي العراقي.
وقد كان الروائي موفقاً في دلالة العنوان «عن لا شيء يحكي» بوصفه عتبة نصية دالة، حسب تعبير الناقد جيرار جينيت، لتطابقه مع طبيعة السرد التخييلي هذا الذي تصطنعه ذات عمياء، تفتقد القدرة على الإبصار، لكنها تتحدى كل هذه المعوقات لتصنع عالماً يضج بالمرئيات والصور والأحداث الساخنة. ولكي يضع المؤلف شارته التأليفية الاستثنائية هذه، فقد أصر على أن يخصص الغلاف الأخير، وجزءاً من الغلاف الأمامي للكتابة المجسمة بخط «بريل» الخاص بالعميان، ربما في إيحاء خفي يدعو لقراءة الرواية بلغة «بريل»، للمشاركة في فهم العالم الداخلي المحتدم بالألم والمعاناة لشخصية الأعمى، ومجترحاً عتبة نصية بصرية إضافية تعزز المظهر التشكيلي الدال للغلاف الخارجي بوصفه عتبة نصية أساسية من عتبات الرواية.
رواية «عن لا شيء يحكي» للروائي طه حامد شبيب، إنجاز مهم يحسب للمؤلف وللرواية العراقية الحداثية، وإضافة نوعية لمفهوم شعرية العمى في الخطاب الروائي.
المصدر:الشرق الأوسط