الرسوم الصخرية التجريدية في البادية الأردنية
الرسوم الصخرية التجريدية في البادية الأردنية
الباحث الأكاديمي والفنان التشكيلي زيد عدنان
تحفل البادية الأردنية بعشرات الآلاف من الرسوم والنقوش الصخرية التي تسمى اصطلاحيا بالصفائية، وقد تناولنا في موضوع سابق حمل عنوان (الواقعية في الرسوم الصخرية لفنون البادية الأردنية)، مرجعيات هذه التسمية وممارسات ذلك المجتمع الذي تمكن من إنتاج هذا الكم من الأعمال الفنية.
وفي هذه السطور نتطرق إلى الأداء الفني الذي هيأ لمنفذي هذه الأعمال الدمج بين أسلوبين فنيين متباينين في عمل واحد: أسلوب واقعي انعكس بشكل واضح في محاكاة ونقل الأحداث والممارسات المجتمعية بأمانة ودقة، وأسلوب تجريدي من خلال الأداء الفني للأشكال والنسب وتوزيعها داخل فضاء العمل، ويمكن تعريف التجريد على انه إخراج للشكل الفني من كل ما هو مألوف عن الطبيعة وإحالته لصيغة جديدة للتعبير عن فكر يفترض بأن القيمة الفنية كامنة في ما تم إنتاجه من أشكال مجردة. لقد استطاعت هذه الرسومات من فتح الباب على مصراعيه أمام أنماط جديدة من الهيئات الشكلية الآدمية والحيوانية بعد اختزالها وتجريد الكثير من تفاصيلها وهذا ما يسمى بالتجريد النسبي، وهو يختلف عن التجريد الخالص الذي يستند بأشكاله على تكوينات غير متمثلة في الطبيعة بشكل مباشر، ويشكل خطوطا حلزونية أو منحنية متقاطعة وغير متقاطعة وغيرها من الأشكال التجريدية الصرفة. يمكن القول إن وراء هذا التجريد شعور يدفع الفنان للتعبير عن معان كامنة تستتر خلف تلك الأشكال المحورة من خلال تصوير الحدث والقوة الإيحائية المنسوبة لتلك الهيئات واستخلاص عناصر تحمل سمة الانسجام والغرابة في معظم الأحيان، لتجعل الأشياء مفهومة على نحو عميق.
تمكنت هذه الرسومات بأسلوبها التجريدي من إيجاد مسارا مستقلا حافظت عليه بالرغم من وجود حضارات قديمة وعريقة مجاورة لديها انجازات كبيرة في مجال الفن، ومع تقادم الزمن فان هذه الأعمال أخذت طابعا أكثر شمولية واستقلالية مستندة على التفكير الروحي والفلسفي الذي أنتج هذا الأسلوب. لقد كانت للطبيعة والبيئة وما وفرته من خامات إحدى أهم الأسباب الجوهرية لصياغة مسار هذا النتاج الفني، ولتحليل ظاهرة التجريد في الرسوم الصخرية في البادية الأردنية لابد من الرجوع إلى الأسس التي استندت عليها، ومن أهمها هو التبسيط لموضوعات البيئة المحيطة وكثيرا ما تنتهي هذه الصيغ إلى انساق من الخطوط الخارجية للهيئات والتي تمثل أشكالا موجودة في الطبيعة، بمعنى أن الطبيعة المرتبة بموجوداتها يمكن أن تكون أحداثا بصريا وليس انطباعات عابرة، وقد تستهوي أحاسيس وتأملات تكون فيها تلك الخطوط انسب طريقة للتعبير عنها، وهذا يعني بإن الإحساس بجمال الأشكال الفنية المجردة ذات الأصول الطبيعية المنفذة في هذه الرسوم هي محاولة لتمثيل مظاهر خفية في الطبيعة.
ومن العوامل الأساسية المؤثرة في إنتاج مثل هذه الأعمال هي الصلة بين الرسم التجريدي والحياة الروحية حيث يتطلب هذا الموضوع تسليط الضوء على المفاهيم العقائدية التي تقف وراء هذا الفن، وكذلك الإفادة من المفاهيم المستقلة للفن التي أخذت طابعا روحيا، ويعتقد العديد من الباحثين أن صلة الفن بالعقائد الدينية وثيقة، وكذلك الانفعال الشعوري فهو يتجه نحو تحويل ذاته حسيا إلى تكوين شكلي تشكيلي.
إن اعتقاد حضور الأرواح في جميع الموجودات الطبيعية هو من الأمور الشائعة بين الشعوب والأقوام الوثنية، كما هو الحال في المجتمع الصفائي، بمعنى أن الفنان يحاول نقل الحقيقة المضمرة التي شاهدها أو التي يؤمن بها في كيانه للسيطرة على الطبيعة، شانها شان طقوس الصيد التي كانت تمارس من خلال رسم الفرائس في محاولة للسيطرة عليها وبالتالي التمكن من صيدها، ناهيك عن الرغبة في توثيق الأحداث والممارسات الحياتية، كما وان عنصر التفكير المستغرق وجد في الرسم التجريدي القوة المناسبة لتسجيل الانطباعات التأملية التلميحية، وكذلك فان هذا الأداء الفني يؤمن سرعة في انجاز مثل هذه الرسومات إذا ما قورن بالأسلوب الواقعي الذي يركز على تفاصيل الأشكال، فالاختزال يحول مظاهر الطبيعة إلى أشياء لامادية مجردة، وما يؤكد وشائج الصلة بين أشكال الرسم التجريدي والمعتقدات الروحية والنفسية هو الانتماء إلى هذه المنطقة، التي يمكن ان تكون لها عناصر تتمثل بمفاهيم عقلية تأملية ترتبط بطبيعة الظروف المناخية والنفسية والاقتصادية، وهي بالنتيجة قد هيأت لمناخ روحي يستجيب للمفاهيم التجريدية، إضافة إلى توظيف النقوش الكتابية بصياغة تشكيلية داخل هذه الرسوم. لذلك فان الفنان لم يكن يصور أحاسيسه المادية فقط بل كان يعكس رغباته الروحية ، وقد شكل هذا النوع من الفنون قوة حسية شاملة، وهنا يجدر بنا القول إن رسوم البادية أغفلت البعد الثالث أو العمق أي المنظور الخطي بشكل كامل، وقد يكون ذلك لتحقيق أفكار جوهرية تعمل على تذويب ما هو عابر أمام ما هو ابدي، أي أن الطبيعة الروحية ومدى ارتباطها بالغرائز والحس والعقل هي التي تحدد الرسم التجريدي وبأسلوب فني عفوي أضفى سحرا على كل من يشاهد تلك الرسوم، وفي ضوء ما تقدم يتبين أن الأعمال التجريدية لرسوم البادية الأردنية تخلت عن الصورة المألوفة إلى درجة كبيرة واعتمدت على علاقات خالصة في بناء أشكال مبسطة ركزت على إبراز الفكرة القائمة وتركت الشكل الظاهري وراء جوهره.
المصدر:الدستور