"وادي قنديل" رواية تخييلية تنهي الحرب السورية في 2034
"وادي قنديل" رواية تخييلية تنهي الحرب السورية في 2034
لبيروت بخاصة، ولبنان بعامة، حضور روائي مميز في سورية، ومن ذلك ما تواتر في الروايات السورية التي شغلها الزلزال المتفجر منذ 2011. ففي رواية عبير إسبر "سقوط حر" (2019) تفرّ إلى بيروت ياسمينا المطلوبة أمنياً في دمشق، وتسجل اسمها في مفوضية اللاجئين. ومع الصورة البهية لبيروت كمدينة للحرية والإبداع، ترسم لها "سقوط حر" الصورة النقيضة جرّاء الحرب، حيث يحضر الاشتباك بالواقع السوري المتفجر. وقد تعلقت ياسمينا بالمدينة "المجنونة" التي صارت هي الحكاية، بعدما كانت مسرحاً للحكاية، وتراجع فيها قبول الآخر، حتى كان أن طردت اللاجئة السورية.
في رواية ديمة ونوس "الخائفون" (2017) ينشب الخوف كداء مكين أصاب السوريين بعد زلزال 2011، ومنه الذي هي فيه سلمى ابنة الكاتب السوري المعارض في أسرة تشققت بين الموالاة والمعارضة. وقد مضت سلمى إلى بيروت، حيث ملتقى السوريين الذين فتك بهم الخوف: سلمى والفنانة ابنة مدينة حماة سليمى، والكاتب الذي ينشر باسم مستعار "خوفاً من الخوف".
إذا كانت بيروت في رواية "الخائفون" منفى وعيادة نفسية للسوري في آنٍ واحد، فهي مباءة في رواية نبيل الملحم "إنجيل زهرة" (2019) حيث مستنقع العهر الذي تغطس فيه زهرة، لكن على يد العين الأمنية السورية المتمثلة بشخصية بلسم. كما كانت بيروت واحدة من المحطات وشمت الشخصية المحورية يوسف. وتتعزز هذه الصورة السالبة لبيروت في رواية محمود حسن الجاسم "نزوح مريم" (2015). فالمعلمة المسيحية سارة التي نزحت من مدينة الرقة بعد اختفاء زوجها وهيمنة داعش، تعود إلى بلدتها محردة، فيقودها وابنتها، المهرّب حنا إلى بيروت، كمحطة في طريق التهريب إلى أوروبا. وفي هذه المحطة يجمعها ببيت مهجور مع مهاجرة عراقية، وتتعرض للاغتصاب.
"وادي قنديل"
في الرواية الأولى للشاعرة الشابة نسرين أكرم الخوري "وادي قنديل" (2017) يختلف الحضور الروائي لبيروت ولبنان عما هو عليه في الروايات الأربع السابقة. إذْ تبدأ هذه الرواية من المستقبل، من سبتمبر (أيلول) 2034 في قرية الفنيدق، شمال لبنان، حيث يجري دفن أنس رحيم بحضور امرأته غيم حداد والراوية ثريا لوكاس التي ستروي حياتها، مذ كانت في الخامسة، لاجئة بعدما أُنقذت من الغرق عام 2014. وقد أخبرتها أمها بالتبني ساتي أنها جاءت من بلد اسمه سورية، وفيها حرب. ومن بعد، في عام 2021، عندما توقفت ثريا عن دروس العربية، وصارت تتابع أخبار سوريا في وسائل الإعلام والتواصل، عرفت أن لكل سوريّ قصةً حزينة، هي حصته من الحرب. وقد انتهت الرواية بفقرة عنوانها "البداية" تعود فيها ثريا إلى بيروت في اليوم التالي لما ابتدأت به في فنيدق، وحجزت بطاقتي سفر ذهاب فقط، واحدة إلى مقامها في لارنكا، وواحدة إلى دمشق. وفي سلة المهملات أمام صالة المطار رمت إحدى البطاقتين، وعلى القارئ أن يحزر أيهما.
رواية "وادي قنديل" (دار المتوسط)
سوى البداية والخاتمة، ينهض بناء الرواية بأوراق غيم حداد عما قبل 2014، وعن أيام الرحلة، يوماً بيوم، إلى وادي قنديل في 2014 نفسها، كذلك بهوامش ثريا لوكاس. من الطريف أن الروائي العراقي وارد بدر السالم أكد في ما كتبه عن هذه الرواية أن "وادي قنديل" مكان افتراضي، بينما هو موقع سياحي فاتن وشهير، يبعد عن اللاذقية شمالاً 25 كلم، ومثلها عن الحدود السورية التركية، وقد دمّرت الحرائق موقع "وادي قنديل" في 9/10/2020.
تكتب غيم حداد في أوراقها أنها نجت في نهاية 2011 من محاولتَي اختطاف في حمص، وعاشت بعدئذٍ في اللاذقية الآمنة نسبياً. وقررت غيم المسيحية منذ بداية الزلزال السوري أن تحافظ على آدميتها، متسلحة بالخوف: "فليكن الخوف هو السكين التي تضعينها تحت وسادتك... وليكن خوفاً مسنوناً يذبح".
رحلة "الشلة"
تحتل رحلة "الشلة" إلى وادي قنديل مكاناً مركزياً من ذكريات/ أوراق غيم: جنى صباغ التي ولدت في حارة اليهود (حي الأمين) في دمشق. وتكتب غيم أن بيوتاً مهجورة ومقفلة تنتظر عودة أصحابها اليهود. وقد تعرفت غيم هنا على أنس رحيم الذي كان يقوم بتحقيق صحافي حول يهود سورية بعد زلزال 2011. وكانت والدة جنى السنّية الدمشقية تقول إن حي الأمين "هادْ مو إلنا. هادْ للشيعة واليهود والفلسطينية".
وتشتبك جنى صباغ مع ريشة المثلية التي تصفها بالشبيحة رداً على قولها إن التغير الموعود أوصل الرعاع، وطمس المبدعين الحقيقين، بينما تعلل جنى انسحابها بفرار المحرضين المعارضين إلى أوروبا، يتسولون على أشلاء من ماتوا ويطالبون بأسلمة الثورة.
من شخصيات الرواية ميسم المثلية أيضاً، والتي تبرر عدم مشاركتها في التظاهرات بأنها مقيمة في اللاذقية التي "كُمَّ فمها مبكراً". وهذا أيضاً العلوي صالح خليل، وهو صاحب مكتبة في اللاذقية، هاجمت مجموعة مسلحة شاشانية قرى مجاورة لقريته. ويكذّب صالح حديث صديقه السني عروة عن الهتافات الطائفية في أول تظاهرة شهدتها اللاذقية. وتلك هي شخصية النازحة الحلبية حنان التي تستقبل ثريا لوكاس وتسلمها الأمانة التي احتفظت بها خمس عشرة سنة.
والأمانة هي أوراق لغيم تتحدث عن لجوئها إلى اللاذقية وعن دراستها. وفيما تروي حنان لثريا عن حياتها أنها تزوجت من علوي، فالفقر يلغي الاختلافات، فتقول ثريا التي ترى حنان كنزاً ثميناً تمثل ما تحتاجه كذاكرة ناطقة للبلد: "كل ما يتعلق بالحرب السورية يدور في فلْك الطوائف، أقليات وأكثريات، جرائم ترتكب بحق الطرفين من قبل الطرفين". وتوحّد ثريا بين الديموغرافية والطائفية، غير آبهة بما يميز بينهما، ثم تحدد اقتصار معايشتها للطائفية على "تمدد الإسلاموفوبيا كبقعة زيت على فستان العالم".
أوراق وشخصيات
لم تجد ثريا في أوراق غيم حداد إلا شخصيات متماثلة طحنتها الحرب فأفقدتها ملامحها، وأعادت تشكيلها نسخاً حيادية هامشية. ومن الصور البديعة التي تتواتر في الرواية، حلم غيم بتمثيل دور نهر على خشبة المسرح "أنا النهر أول كاميرا في التاريخ". كذلك ما تكتبه غيم إبّان اعتصام الساحة الشهير في حمص (18/4/2011) إذ بدأ قبلها يمطر رصاصاً قبل الرصاص الذي أمطر المعتصمين. غير أن هذا "البديع" لا يخفي ما احتشد في الرواية، مما قد يرى فيه "مغرضٌ" مغازلةً للترجمة أو اصطياداً للجوائز.
في "وادي قنديل"، أثناء رحلة "الشلة" شكت غيم لأنس أنها كاتبة فاشلة، فكل ما تفعله هو تدوين مذكراتها، وكل ما كتبت هي فكرتها عن رفاق الرحلة. وهي حائرة بين الانحياز إلى الواقع أو الخيال، وإذا كانت تنكر على نفسها أن تكون بطلة الرواية، فلأنها تفتقد التطرف، أي الذهاب بالحياة إلى أقصاها.
يروي أنس لثريا أنه كان عاجزاً عن البقاء في سورية، لذلك جاء إلى لبنان. ويشخّص لثريا أن لا فكرة لديه عن المستقبل، وهو لا يعيش في الحاضر، بل في ماضٍ حاضر عنوانه سنة 2014. والحرب عند أنس لا تنتهي أبداً، فالكل يتوهمون أن الحلم يكمن في الغفران، ولكن لا أحد يغفر. ومن الخطأ أن يسمى النسيان غفراناً، فمن يراهن على النسيان إنما يؤسس لحرب جديدة. أما ثريا فهي على العكس من أنس، بلا ماض، وبالتالي "كل منا تنقصه حقبة" وهما يكملان بعضهما بعضاً. لكن أنس يأمرها بالرحيل، وبرحيلها يبلغ الاشتباك ذروته بين حكايات غيم وتعليقات ثريا وشهوات الشخصيات واختلاف مواقفها ومشاهد الزلزال السوري، وكل ذلك في فضاء وادي قنديل وحمص واللاذقية وحلب، من سورية، وفي فضاء بيروت وفنيدق من لبنان، وصولاً إلى فضاء لارنكا، في زمن يخرج من أبعاده المعروفة – كما تقول الرواية - ويصير كالماء، يأخذ شكل الإناء الذي يوضع فيه، لأنه زمن الحرب المترامي من 2011 إلى 2029 إلى 2034.
المصدر:اندبندنت عربية .