Skip to main content
أسامة عرابى يكتب: صافينى مرة.. سيرورة الصعود والانكسار

أسامة عرابى يكتب: صافينى مرَّة.. سيرورة الصعود والانكسار

 

ــ الرواية تعبِّر باقتدار عن جحيم المناخ العام من غلبة الثقافة الاستهلاكية وانعدام الحسّ العميق بالهوية القومية
يقدِّم لنا الشاعر والمسرحى والروائى المهندس نعيم صبرى، فى روايته الثانية عشرة «صافينى مرَّة»، الصادرة عن دار الشروق، بعد أمواج الخريف وشبرا والمهرج وتظلّ تحلم إيزيس ودوامات الحنين وسواها، يقدِّم درسًا ثمينًا فى الجدية وراهنية الكتابة فى التصاقها بالحياة وبهمومها، مستنبطًا لغة السرد من المعيش الحي؛ ليدفعنا إلى إعادة قراءة الواقع بشروطه المادية والتاريخية، كاشفًا عن نسق القيم والمشاعر المؤثرة فى تشكيل متخيلنا الاجتماعى، ومراعيًا خصوصية الكتابة الأدبية التى تورِّط الذات وتجعلها طرفًا فى الحوار مع ما يحدث فى الوطن، وفى أعماق النفس، وفى العالم. فما الذى يُشير إليه عنوان الرواية «صافينى مرَّة» بوصفه جزءًا من تشكيل التجربة الأدبية، وجسرًا بين الصمت والكلام؟ يذكِّرنا العنوان بأغنية عبدالحليم حافظ التى كتبَ كلماتها الشاعر والضابط البحَّار سمير محجوب، ولحنها محمد الموجى الذى وضعه لتشدو به فى البداية مطربة مغمورة كانت تعمل فى صالة زينب عبده بكازينو البوسفور المطلّ على باب الحديد المعروف الآن بميدان رمسيس. لكن الموجى لم يرُقْ له أداؤها، فعرض اللحن على المطرب عبدالغنى السيد الذى كان يُعدُّ حتى منتصف الأربعينيات المطرب الثانى بعد محمد عبدالوهَّاب، فاعتذر للملحن الناشئ يومها، مُفهمًا إياه أنه لا يُغنى إلَّا لكبار الملحنين! فأعطاه لعبدالحليم حافظ الذى توثقت علاقته به من خلال عملهما معًا فى الإذاعة؛ فذاعت شهرته، ونال ما يستحقه من اهتمام. وبذلك توسَّل نعيم صبرى بهذه الأغنية ليزيح النقاب عن طبيعة المرحلة التى شهدت مولدها وانطلاقتها فى عقد الخمسينيات، وما اتسم به من مدٍّ قومى، وتقدم اجتماعى وسياسى، وبناء دولة حديثة فى مصر. طارحًا (الكاتب) أسئلة محدَّدة بمعطيات واقعية تاريخية تستدعى بطبيعتها البحث عمَّا آلت إليه الأوضاع الراهنة بانعطافاتها وتراجعاتها التى رافقت المسار الحرج بالمعنى السياسي ــ الإيديولوجى لمصر وسواها من البلدان العربية. وذلك عبر الشخصية الرئيسية فى الرواية وهي «الراوي» الذى يحكى بضمير الأنا، ساردًا سيرورة تطور وعيه، وحواره مع ذاته والآخر. مقدمًا لنا شعرية التفاصيل الصغيرة، أو الحياة فى تعبيرها الشعرى. منفتحًا على خرائط توليد المعانى، وتأسيس العلاقات المرفودة بأحلام ومجازفات تُعين على تجسيد أدبية النصّ، وسبر فضاءاته التخييلية. لهذا شكَّلت حكاياته عن «تيته مريم» أو «الست أم حنا» عالمًا غير عادى من عناصر الحياة العادية، مستولدًا اللا مألوف من المألوف؛ فتتقاطع المرويات لتمسى محض مرايا للشخصيات الأخرى، أو صداها؛ نظرًا إلى الروابط المشتركة التى تجمعهما ببعضهما البعض من ناحية المرجعية الاجتماعية ــ الثقافية. فيتذكر لحظة نزوله من بطن أمِّه ساعة نشرة الثانية والنصف ظهرًا فى إذاعة البرنامج العام، بعد معاناة استمرَّت ثلاثة أيام فى البيت على يد الحاجة بهجة الداية، حتى أضحى «حدثًا يتردد بنوادره المؤلمة والضاحكة أحيانًا، وكأنه خبر مهم ورد فى النشرة الإخبارية». واستماعه إلى برنامج «ساعة لقلبك» بصحبة نجوم الكوميديا «أبو لمعة والخواجة بيجو والمعلم شَكَل والأستاذ شديد». وقرآن الساعة الثامنة مساء قبل النشرة بأصوات أساطين المقارئ المصرية والعربية: مصطفى إسماعيل وعبدالباسط عبدالصمد وعلى البنا وسواهم. وبرامج: ما يطلبه المستمعون وحول الأسرَّة البيضاء وبابا شارو يوم الجمعة، وبعده أبلة فضيلة. ثم على الناصية ظهرًا وفوازير رمضان التى ظلت تقدمهما آمال فهمى سنين طويلة. وألف ليلة وليلة التى أعدَّها طاهر أبو فاشا بصوت شهر زاد البديع، أو الست زوزو نبيل وصوتها الرصين. وقبل ذلك جميعًا حفلات الست أم كلثوم فى الخميس الأول من كل شهر فى موسم غنائها الذى يستمرّ أشهر الخريف والشتاء والربيع لتستريح فى الصيف. وبذلك يتخذ نعيم صبرى من الحكاية الواحدة فاتحة لحكاية تالية، أو سلسلة أخرى من الحكايات، واستجماع خيوطها بين حين وآخر دون الوصول بها إلى خاتمة، عامدًا إلى تنويع أصوات السرد، وزوايا رؤية الواقعة، على النحو الذى اقترحه ميخائيل باختين فى نظريته الشهيرة حول «المخيلة الحوارية». راويًا قصة عشقه للعامية المصرية، وقدرتها الفذَّة على التعبير والتصوير، متسائلًا عن «الصلة بين الموت والحب، والضحك والموت، وهل هى محاولة من المصريين القدماء لقهر الموت بجعله مرادفًا للحب والضحك؟ يجوز. فقد قلبوا مقابرهم إلى أماكن مريحة عامرة بالأكل والمشرب والملبس». وكان الكاتب الكبير بدر الديب يرى أن هناك علاقة لا تنفصم بين ثالوث: الحب.. المعرفة.. الموت. فطريق المعرفة هو الحبّ. وطريق الحبّ هو الفناء أو الموت. وقد توحَّد هذا الثالوث فى المرأة بدنًا وروحًا. وراحت ذاكرة الراوى تستدعى صور طفولته فى أثناء لعبه بالكرة الشَّراب والإسفنح. وصورة جده إبراهيم حنا بالبدلة الكاملة والصديرى وربطة العنق التى كان يُسميها جرافتة أو جرافِتة، والطربوش على رأسه؛ حيث كان يُعبِّر عن الهُوية المصرية فى مقابل القبعة رمز الفرنجة، وقد ألغاه مصطفى كمال أتاتورك فى تركيا عام 1925، وجمال عبدالناصر عام 1958من مصر بوصفه رمزًا للملكية والعهد البائد. وما كان يرويه له وهما يشربان القهوة باللبن فى الصباح عن حبِّه لحزب الوفد ولسعد زغلول ومصطفى النحاس وصفية زغلول أمّ المصريين. متذكرًا قصة حبِّه لـ«كريمة» بنت الجيران التى كانت تكبره بعدة سنوات. وتعلقه بالمسرح أبى الفنون وحضور عروضه، والمشاركة فى فريق التمثيل بمدرسة التوفيقية بشبرا وكلية الهندسة، ومتابعة النصوص المسرحية بالبحث والدرس. ومراجعاته الدينية والفكرية والسياسية بلا تحفظ ولا محاذير؛ دفاعًاعن عقل علمى نقدى يَعُدُّه قوة تطلع إلى الحقيقة، أى قوة حرَّة ترفض التعامل مع العالم بوصفه شيئًا منجزًا أو نهائيًّا، لذا تشكَّل وعيه الوطنى من خلال رؤية فكرية وحركة سياسية تبلورت للثورة الوطنية المصرية فى مرحلة اكتسابها مضمونًا اجتماعيًّا تقدميًّا، وبُعدًا عربيًّا وحدويًّا. وذلك إثر حرب السويس، وتأميم القناة، وإعلان الوحدة المصرية ــ السورية. غير أن هزيمة الخامس من يونية عام 1967، والتحوّل إلى اقتصاد السوق فى السبعينيات، واندماج الاقتصاد المصرى فى الاقتصاد الرأسمالى العالمى بالشروط التى وضعتها المؤسسات المالية الدولية؛ أدى إلى تدنى مستوى المعيشة، ووقوع 52% من المصريين تحت خطّ الفقر، وتزايد الديون الأجنبية، وانخفاض معدلات الاستثمار والادخار، وازدياد معدلات البطالة، واتساع الفوارق الطبقية بشكل كبير، مما أفضى إلى غربة راوي «صافينى مرَّة»؛ فعانى البطالة ونفاد المدخرات، والعجز عن الوفاء بإيجار الشقة، وتوقَّف عن الدراسة، وترك الكلية. وعاش متأرجحًا بين اليأس والأمل على الرغم من قدراته التمثيلية، وقيامه ببعض الأدوار فى العروض المسرحية. فوجد فى الأكل تسليته الوحيدة بعد أن فقد حماسته للقراءة، وصادق الطيور والقطط، وشارك القطط أكل المعلبات، وأطلق على إحداها اسم «ليلى» التى كانت مؤنسته فى وحدته ومدبرة منزله، ثم اختفت لأسباب غامضة. وعاش محمَّلًا بإحباطاته فى عدم الفوز بالأدوار التى حلم بأدائها، وسماع تصفيق الجمهور يُدوِّى فى أذنيْه. وأضحى يُمضى وقته جالسًا أمام الغرفة سارحًا فى أفكاره. مُردِّدًا الأدوار القريبة إلى نفسه فى مأساة الحلاج.. الفتى مهران.. الخال فانيا. مُتحدِّثًا إلى«ليلى»، مستدفئًا بذكراها. يتردَّد على مسامعه صوت «سونيا» فى نهاية مسرحية «الخال فانيا» لأنطون تشيكوف: «سنسمع ترانيم الملائكة، وسنرى السماء مرصَّعة بالماس. سنرى كيف تغرق كلّ شرور الدنيا.. كل آلامنا فى بحر الرحمة الذى سيغمر العالم كلَّه. وستصبح حياتنا هادئة.. رفيقة.. عذبة كالحنان.. أنا أومن.. أومن يا خال فانيا المسكين. أنت لم تعرف الفرح فى حياتك». وعلى هذا النحو، راح الراوى يعزف على أوتار تشيكوف فى تصوير سيكولوجية أبطاله، ونقل تحولاتهم باستمرار، عبر صراع العواطف المشبوبة المتمردة؛ مما جعله بطلًا أنموذجيًّا اجتماعيًّا بفضل سخطه الحادّ على الوسط المحيط به (ألم يقلْ الخال فانيا لـ«يلينا»: أمَّا الحاضر ففظيع بعدم معقوليته»؟). وبذلك استطاعت رواية «صافينى مرَّة» أن تعبِّر باقتدار عن المناخ العام الذى نحيا جحيمه منذ عقود، مفتقرًا إلى الجوهر الإنسانى، وتغلب عليه الثقافة الاستهلاكية الفردية المبتذلة، وينعدم فيه الحسّ العميق بالهوية الذاتية والقومية؛ مما جعل الراوى وجيله يعانيان الضياع والتمزق وتخثرالأحلام، بعد أن حوَّلت النيوليبرالية التاريخ إلى ميثولوجيا، وصنعت من الاستهلاك بديلًا من الديمقراطية والخيارات السياسية المصيرية.

 

 

المصدر: الشروق 

05 Dec, 2020 01:47:53 PM
0

لمشاركة الخبر