Skip to main content
عائد خصباك ..الاقتصاص من السلطة بالسخرية

 عائد خصباك.. الاقتصاص من السلطة بالسخرية

 

د. عقيل عبدالحسين -

إن من وظائف الخطابات النقدية والروائية كشف زيف الأيديولوجيا، بوسائل متعددة منها في الرواية «السخرية» تلك التي تُركّز على المسافة بين المروي والمروي عنه؛ فالأيديولوجيا تسعى إلى الإيهام بأنْ لا مسافة بين تصوراتها عن العالم والعالم، أيا كان العالم: متحقَقا في المجتمع الذي تحكمه، أو في أي مجتمع إنساني آخر

وقد تمارس العنف الفعلي أو الرمزي لإلغاء أية مسافة تسعى إليها الفئات المهيمَن عليها؛ ولذا قد يتخفى الفن عموما، والسرد خصوصا، في أوقات الدكتاتورية والتسلط، وراء السخرية التي تظهر في أشكال مختلفة، كما يورد صاحب معجم مصطلحات نقد الرواية، منها: الشائعة، واللطيفة، والملحة، والتلاعب بالألفاظ، والمواقف المضحكة، والمفارقات الساخرة، أو المضحكة المبكية. وكلها تنبه القارئ إلى المسافة بين الأوضاع الاجتماعية، والعلاقات بين الفئات الاجتماعية مثل: الحاكم والمحكوم، والمثقف والإنسان العادي، والبطل النموذجي والمواطن المهزوم. وتساعد في إبراز المسافة بينهما، وفي الإشارة إلى الأيديولوجيا التي توجدها

ومن المواقف المضحكة في رواية «يا دنيا يا غرامي» لـ«عائد خصباك» (دار ميزوبوتاميا، بغداد، 2018) موقف موت حَمَل أبي هادي. وهادي هو الشخصية الرئيسة في الرواية تدور حوله مواقفها الموزعة على فصول قصيرة، تُظهر العلاقات الاجتماعية والثقافية في مدينة الحلة في السبعينيات وبداية الثمانينيات. ويرد الموقف في فصل عنوانه (جرس الخطر). وخلاصته أن أبا هادي قرر أن يضع ما يملك من مال في حَمَل يربيه للاستثمار، مُعرِضا عن نصيحة زوجته بأن يستغل المبلغ في علاج صداعه، أو في مداواة بواسيره، فيشتري الحَمَل، ويُكلِّف (هادي) بشراء علف له، فيشتري هذا الأخير له حنطة يموت مُتسمِما بها؛ لأنها، كما سيتضح حنطة معدة للزراعة، ومعفرة بمادة سامة

ويضرب أبو هادي رأسه بعمود، قهرا على ماله المضاع، ويُنقل إلى المستشفى ليفاجأ، بعد حين أن المحافظ والمسؤول الحزبي ومدير المستشفى يعودونه، ويستغرب؛ فما عرف أن الدولة زارت رجلا ضرب رأسه بعمود، أو بغيره، ليعرف أنهم عدّوه بطلاً، وحسبوا حَمَله بطلا (قال المحافظ: كنتَ مثلا للآخرين في المواطنة الصالحة، فأنت كما قال السيد النائب حفظه الله: «إذا خانتك قيم المبادئ فحاول ألّا تخونك قيم الرجولة.» وأنت ما خنتها، ولا خانها الحَمَل العائد لك، فقد ضرب الحمل بموته جرس الإنذار، فانتبهنا، نحن المسؤولون (كذا)، للخطر)

واستدعاء مقولة النائب «صدام حسين» في سياق موقف ساخر «استهداف للغة، واستهداف للنظام الاجتماعي الذي يستخدم اللغة لتمرير الأيديولوجيا»، فهو نظام تمايزي في الواقع؛ إذ إن أبا هادي لا يملك إلّا حَمَلا واحدا، يقتله فساد الحكومة والتجّار الذين يبيعون حنطة مخصصة للزراعة، بدل توزيعها على الفلاحين لزراعتها. أما المحافظ فيملك ثلاثمئة رأس من الغنم في مزرعته بقرية العوجة في تكريت، لا يخسر منها شيئا؛ لأنّ أبا هادي ضحى بما يملك من أجلها!

والتمايز الاجتماعي ليس اقتصاديا بين أغلبية فقيرة وأقلية غنية فقط، بل مناطقي، فمنطقة تحكم أخرى: تكريت والحلة (والعراق). وسياسي: جماعة قليلة تحكم كثيرة. أما لغة مقولة النائب التي تكاد تكون فارغة من المحتوى، فهي في هذا السياق سبب آخر من أسباب السخرية؛ لأنها تتحدّث عن مبادئ وقيم لا تجسيد لها في الواقع، ولا تنتمي لمعتنقيها الحاكمين «البعثيين». ولا يمكن أن يطبّقها المحكومون، الفقراء، المعدمون. ومقارنة المقولة بالموقف تُظهر المسافة بينها وبين الواقع، وتُعمِّق السخرية من الأيديولوجيا، ورموزها، ونظامها الاجتماعي

لا أريد أنْ أقول إنّ هذا هو الموقف الوحيد في الرواية، وإن هذه الرواية سياسية هدفها انتقاد أيديولوجيا، أو حزب أو رمز، ولكنه مثال لتوضيح السخرية التي انتهجتها الرواية عبر مواقف، ومفارقات شملت، فضلا عن السلطة، إنسان الطبقة الوسطى، مُمثَلا بهادي الذي يفتقر إلى الوعي لتمييز الأيديولوجي الكامن في مظاهر الثقافة والإعلام واللغة من حوله. وذلك كله جعله مسلوب الرأي والقرار، أقصى أحلامه، هجرة الوطن

 

 

 

 

المصدر: صحيفة القبس 

08 Dec, 2020 10:39:47 AM
0

لمشاركة الخبر