Skip to main content
الإسبانية "كارمن رويت برافو".. عاشقة اللغة العربية

الإسبانية "كارمن رويت برافو".. عاشقة اللغة العربية

 

 

 
تعرفتُ على المستعربة الإسبانية "كارمن رويث برافو" من سيرتها الذاتية، وعلمتُ أنها متقاعدة، تمارس نشاطها في البحث والتأليف والمساهمة في المؤتمرات والندوات بعد أن قضت سنوات عمرها في التدريس الجامعي، أستاذةَ كرسيّ في اللغة العربية وآدابها (الأدب والفكر العربي المعاصر) بجامعة مدريد المستقلة، ومحاضرةً في جامعات إسبانية أخرى، منها جامعة إشبيلية.

لفت نظري في سيرتها أنَّ لها بصمات كثيرة في مجال التأليف والترجمة، ومن الكتب التي ألّفتها: "الجدال الأيديولوجي في المشرق ما بين النزعة القومية الوحدوية والنزعات القُطْرية (1918-1952)"، و"الثقافة الفلسطينية"، و"القدس"، و"المرأة في العالم العربي"، و"سير ذاتية في العالم العربي"، و"مسارات في فلسطين العربية مع بلبل ولينا"، والكتاب التعليمي "ألف ساعة وساعة".

ولهذه المستعربة إنجازات ملحوظة في مجال الترجمة، فقد ترجمت من اللغة العربية أعمالاً أدبية مهمة لكبار الكتاب والشعراء العرب، من أمثال طه حسين، وجبران خليل جبران، ونزار قباني، وعبد الوهاب البياتي، وأدونيس، وأمين الريحاني.

ثم التقيت بـ"كارمن" ذات يوم في مدريد، وحالَ لقائي بها قالت لي باللغة العربية: "أهلا بكَ في مجريط".

قلت: "هل تعنين مدريد؟".

قالت: "نعم.. كان هذا هو اسمها عندما أسسها العرب.. مجريط.. واسمها الحالي عربي الأصل محرَّف من اسمها القديم".

وبينما كنا نرتشف القهوة، عادت في حديثها إلى "مجريط"، وألقت إضاءات تاريخية على العاصمة الأوروبية الوحيدة التي تحمل اسماً عربياً.

سألتها عن أصل الكلمة، فأجابت بأنها ممزوجة باللغتين العربية واللاتينية، الشق الأول منها عربي (مجرى) يشير إلى جريان المياه، والشق الثاني لاتيني (إيتو) ويعني الكثرة أو الوفرة، لتدفق المياه من حولها. وبهذا تعني "مجريط": مجاري المياه الوفيرة.

وعن الأصول التاريخية للمدينة، قالت إن الأمير القرطبي محمد الأول هو الذي أسسها، والأبلغ تأثيراً وجود آثار من مجريط ما زالت ظاهرة للعيان في مدريد، تشمل بقايا سور كان جزءاً من الحصن الذي يحمي المدينة، يصعب التعرف عليه لعدم وجود علامات إرشادية حوله.

وبينما كانت الأفكار تدور في رأسي، قلت لمحدثتي: "هذه معلومات غير معروفة، وكأنها منسية".

قالت: "نعم، التاريخ العربي لمدريد يلفّه النسيان، لا تذكره كتب التاريخ المعاصرة"، ثم أضافت: "رغم وجود عشرات المصادر التاريخية القديمة التي تؤكد أنَّ مجريط بناها العرب، وأنها استمرت تحت حكمهم طوال فترة طويلة من الزمن، لا توجد في الزمن الراهن إشارات رسمية إلى تاريخها العربي".

سألتها بحماسة: "ما دور المستعربين في هذا الشأن؟".

قالت: "هناك مجموعة من المستعربين في طليعتهم عميدُهم (بيدرو مارتينث مونتابث)، ومعهم أدباء وشعراء ونشطاء، يطالبون بلدية مدريد من خلال المنتدى الثقافي العربي الإسباني، بالاعتراف بالأصل العربي للعاصمة، وبحماية الآثار العربية وصيانتها، وخاصة السور".

وأضافت "كارما": "مهمة المستعربين اليوم كسر الحواجز الأكاديمية الخالصة، ومحاولة الخروج إلى المجتمع من أجل نشر الثقافة العربية". وتوقفتْ عند ما تقوم به في هذا الإطار، إذ تساهم في برامج حوارية إذاعية وتلفزيونية للحديث عن هذه الثقافة، ويقابلها الجمهور باهتمام ورغبة بالمزيد من المعرفة.

تابعت "كارما" حديثها في هذا الجانب الثقافي، بلغة المستعرب العالم بالثقافة العربية، موضحة أن اهتمام المستعربين بنشر الثقافة العربية في الزمن الراهن، سببُه أن الأدب الإسباني المكتوب بالإسبانية أو بالكتلونية أو بسواهما، استنبت في مجرى نهر الأدب العربي، وحتى المبدع الأشهر في الأدب الإسباني "دون كيشوت" وُلد من أصول عربية.

وشددت "كارما" على أن مهمة المستعربين الآن أن يعرّفوا القارئ الإسباني على الأدب العربي المعاصر. ثم استرسلت في الحديث عن عشقها للّغة العربية، فسألتها: "لماذا اخترتِ اللغة العربية؟"، وعلى الفور ردت: "لأنها لغة جميلة.. لغة فنّ وشعر وبيان.. لغة قابلة للتجديد، ومن أغزر اللغات من حيث المادة اللغوية".

وأخبرتني أنها معجبة بالشعر الأندلسي والشعر الحرّ باللغة العربية، لافتة إلى تأثرها بابن خفاجة، وهو أحد أعلام الشعراء الأندلسيين، ينحدر من بلدة صغيرة من أعمال "بلنسية".

التفتُّ إليها وقلت: "يعجبني شعره، يوحي بمعانٍ جمالية وتعبيرية كثيرة"، وأخذت أردّد معها أبياتاً من شعره الجميل.

تشعّب الحديث بعد ذلك ودار حول الأدب العربي واللغة العربية والقضية الفلسطينية، ثم فاجأتني "كارما" بينما كانت تستعيد لمحات من أيام دراستها الجامعية، بأنها زارت بيروت في ستينات القرن الماضي، للقاء شخصيات فكرية وسياسية مشهورة في ذلك الوقت، والحصول على معلومات تفيدها في إعداد أطروحة الدكتوراه.

سألتها عن موضوع أطروحتها، فأجابت: "الجدال الأيديولوجي في المشرق ما بين النزعة القومية الوحدوية والنزعات القُطْرية (1918-1952)". أخبرتها أنَّ محصلة الدروس المستفادة من تجارب العقود الماضية، أثبتت تفوق التيار الوطني القُطْري، وفشل التيار الوحدوي التكاملي في وقت تتجه فيه دول العالم بخطوات واسعة نحو التكامل، وأكبر مثال على ذلك الدول الأوروبية، التي تمكنت من إشباع رغباتها وآمالها الوحدوية بإقامة الاتحاد الأوروبي، بينما انكفأت الدول العربية في إطار حدودها الضيقة، والنتيجة ما نعيشه راهناً من تجزئة وتشرذم وانقسام.

وضعت "كارما" كتاباً ووضعته أمامها، وقالت: "هذا كتاب لي عن فلسطين باللغة الإسبانية، عنوانه باللغة العربية (مسارات في فلسطين مع بُلبل ولينا)، وهو يعرّف بغزة ويافا وحيفا، ويشتمل على صور للمدن والبيوت والطيور والزواحف والأشجار، وعدد من الخرائط للتعريف بفلسطين، ويقارن بين أوضاع هذه المدن في الماضي وواقعها تحت نير الاحتلال".

وأوضحت أنها أرادت من هذا الكتاب إطلاع القارئ الإسباني على ظروف الشعب الفلسطيني، وأنها تخيّلت في الكتاب محطة سكة حديد يافا فوجدتها شبيهة بمحطة "الإسكوريال" القريبة من مدريد، كما تخيلت محطة سكة حديد حيفا وتحدثت عن علاقتها مع بيروت، وذكرت في كتابها كريمة عبود (من يافا) التي تعدّ المصورة الفلسطينية الأولى.

رأيتُ كتابها شبيهاً بأوتار موسيقية تعزف نغمات إنسانية، تعلو في نسق متجانس، لتعطي إشارات واضحة عن علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وأهمية وقوفه معه لتضميد جراحه.

التفتت "كارما" إليَّ قائلة: "سيُترجم الكتاب قريباً إلى اللغة العربية "، وقبل أن نفترق عرفتني على حديقة فلسطين في إحدى ضواحي مدريد.
 

 

 

المصدر: الرأي 

13 Dec, 2020 11:19:21 AM
0

لمشاركة الخبر