السفر في عالم ال ماوراء
السفر في عالم الـ ماوراء
الأثر الصوفي في نصوص الشاعر الأردني عبد الكريم أبو الشيح
د. عبدالله الشرفات
للوهلة الأولى التي تطالع فيها نصوص الشاعر الأردني عبد الكريم أبي الشيح، فإنك تستجلي مجموعة من الظواهر والعناصر المكرّرة، التي تطفح فيها هذه النصوص حدّ الامتلاء. واستثمار الخطاب الشعري الصوفي هو إحدى هذه الظواهر الأكثر بروزا في مجموعاته الشعرية (كومة أحلام)، و(دوائر الجنون)، و(السفر في مدارات الوجود)، و(مدارات التأويل)، فما أن تلج هذه المجموعات الشعرية، حتى تتحسس الأثر العرفاني ماثلا فيها، بدءًا من عنواناتها وعنوانات القصائد المتضمنة فيها، ومرورًا بقيم المتصوفة وفضاءاتهم وتجاربهم وخطابهم، وانتهاءً بمفرداتهم الروحية الشفيفة، ففي هاته المجموعات، يشتبك أبو الشيح مع عوالم وقيم الصوفية: الوجود ومداراته، والسفر والمعراج الروحي، والتأويل، والرؤيا، وعالم الما وراء، والحلم، والجنون، والعشق والفناء، والتكوين، والصدّ والوصل، والمعرفة والكمال، والمقامات والأحوال:
يرقى براق الكلامِ إلى سدرة الروح
وأرقى القصيدة
يُسلم أبو الشيح نفسه لفيوض الصوفية السابحة في فضاء الوجد والعشق والاحتراق، وينساب منتشيًا فضاءاتهم الموغلة بنشوة الاستجمام الروحي والتأويل وتسابيح الأنا الباحثة عن الصفاء والمعرفة والارتقاء بالكلام إلى مقامٍ عالِ وفضاءٍ رحبٍ قادرٍ على احتواء أسرار القول وإيصال الرؤى.
تراتيل أبي الشيح وإشراقاته الصوفية تنفرج لا عن أساس ديني تعبدّي، وإنما عن أساس محاكاتي استعاري حداثي يتجاوز فيه أبي الشيح،»اللغة العادية ويركّز على لغة انزياحية رامزة تنهل من روافد متعددة، لعل أبرزها الخطاب الصوفي الذي استطاع من خلاله الشاعر كسر النمطية الشعرية المألوفة وتجاوز الطرائق التعبيرية التقليدية في بحثه عن عالم أكثر كمالا من عالم الواقع الفظيع» (د/ لخميسي، شرفي، التجربة الصوفية والتوظيف الرمزي في شعر عثمان لوصيف- -مجلة إشكالات في اللغة والأدب مجلد: 08 عدد: 05 السنة: 2019ص10، 11).
يلجأ أبو الشيح للتجربة العرفانية ولغة المتصوفة كمكون بنائي يعزز من شعريّة نصه ويمنحه روحانيته، ويخدم تجربته التواصلية مع الذات والعالم واللامرئي في سعيه للوصول إلى عالم المُثل وإلى الصفاء الروحي والطمأنية والخلاص من مرارة الواقع. يتدثّر أبو الشيح بعالمه اللامرئي علّه يتخلّص من مخاوفه وعذاباته، فالشاعر لا يجد نفسه في تمظهره المرئي بل في جانبه اللا متمرئي، ما يدفع به إلى تشييد عالمه التأملي الخاص بصورة تذكرنا بالصوفي الذي يعيش عالما خاصا به.
يتجلى الأثر الصوفي في مجموعات أبي الشيح بتمظهرات عدة، منها الإسراف في توظيف الإشارات الدينية، في إطارٍ فلسفيٍّ ينبئ به عن تأوهاته إزاء مفارقات الحياة، وما هو إنساني. والتمحور حول الذات والانطلاق منها في ارتحالاته الفكرية والرؤيوية. والتركيز على مفردات الرؤية، بما يذكّرنا بالمواجد القلبية عند المتصوفة. وتوظيف معجم صوفي يُسلمُنا إلى لغة عرفانية خاصة متدفقة بزخات تأوهات المتصوفة ومناخاتاهم المشتعلة باليقين واللذة والانتشاء. والإشارة الشعرية المباشرة إلى أقطاب الصوفية، كما في قصيدته «أخفي الهوى»، والتي يشطّر فيها أبياتًا لـ «سلطان العاشقين» الشاعر الصوفي» ابن الفارض». وهناك فكرة الاتحاد والتماهي مع الآخر والسعي للوصال مع المحبوب التي يتكرر صداها في نصوصه. والاتكاء على الرموز المكثفة العميقة، المنزاحة عن مركوز دلالاتها، والقابلة لأوجه عديدة من التأويل والدلالة، ولعل هذا وراء قول الشاعر نضال القاسم في معرض قراءته لمجموعة (دوائر الجنون)، بأن أبي الشيح: «يحاول أن يقول الدنيا بأقل ما يمكن من المفردات».
أبو الشيح الذي ولع بديوان الشاعر الصوفي ابن الرومي، تشرّب روح الصوفية مبكرا، فكانت مما أثرّ في تكوينه الثقافي، كما يشير هو نفسه في إحدى اللقاءات معه، استلهم هذا الروح فتخلّقت عنده نويّات لفظية ورؤى أنارت نصوصه الشعرية، تفلتت من آسار العقل والمنطق ونزعت إلى الروحي والعاطفي. هذه الظاهرة يشير لها صراحة عنوان قصيدته «تصوّف»، التي نشرها مؤخرا على صفحته على (الفيس بوك)، وهي ظاهرة في شعره تحتاج إلى أكثر من مجرد مقال، لعلّها تكون موضوعا لبحث قادم يستجلي هذه الظاهرة في شعره على نحوٍ عميق.
المصدر: الدستور