Skip to main content
هارون الصبيحي تمظهرات الجوع في مجموعة «من الأعماق»

هارون الصبيحي تمظهرات الجوع في مجموعة «من الأعماق» 

 

تتكون مجموعة «من الأعماق» للقاص هارون الصبيحي، الصادرة حديثًا عن دار الرائد في عمان، من ثمانين قصة قصيرة جدًا، تتناول موضوعات اجتماعية وإنسانية من الواقع، وتسلط الضوء على قضايا كثيرة، ولفت نظري قصص الفقر والجوع بمعناه المادي والمعنوي، فثمة جوع للخبز، وجوع للحنان، وهذا ما تناولته هذه المقالة.
الجوع المادي
تعري قصة «النتيجة» سلوكيات شائنة، عندما ترتفع أصوات البعض لإنصاف الفقراء وسد عوزهم، فيفوزون بالأوسمة والمكافآت، ويبقى الفقير على فقره لا يلتفت إليه أحد، وما الفقير إلا سلم للارتقاء وجني المكاسب، ففي القصة فقير معدم، وحيد، جعله الراوي بطلًا لروايته ففاز بجائزة نوبل، فنال الأوسمة والشهرة، وبقي الفقير كما هو، لم يتغير عليه شيء.
ولا تختلف عنها قصة «احتفال»، حيث قرروا الاحتفال بالعيد مع الأيتام على طريقتهم، ولما غادروا «تدافع الأطفال لشرب ما تبقى في كؤوسهم من عصير »، فقد احتفلوا وحدهم على شرف الأطفال، فأكلوا وشربوا والأطفال ينظرون. وهكذا كثير من التصرفات والإجراءات عندما توجه لغير الفئة المستهدفة، ولا تخدم إلا قلة متسلقة.
وعلى غرارها قصة «إعلام»، حيث احتفلوا أمام تمثال الجندي المجهول، يمجدونه ويذكرون بطولاته، ولكن «على بعد أمتار كانت دمعة تتدحرج على خد جندي وهو يفكر في إيجار بيته المتراكم»، فأي احتفال بجندي مجهول، والجندي الحي المعلوم يعاني الأمرين، لا يدري كيف يتدبر أمره.
يقول المثل الشعبي «المنحوس منحوس لو حطوا على راسه فانوس»، ففي قصة «خيبة»، توالت الخيبات على المشرد الجائع: «ذلك المشرد كاد أن يسقط على الأرض من شدة الجوع... زاغت عيناه.. دخل بالخطأ إلى المكتبة المحاذية للمخبز... أمسك كتابًا وفتح فمه... صفعه بخلاء الجاحظ»، فهو منحوس حتى النخاع، لا حظ له، ينتقل من نحس إلى نحس، ومن خيبة إلى أخرى، فيزداد ألمًا وفجيعة.
ولا تختلف عنها قصة «ضياع»، فقد سقطت قطعة النقد المعدنية من يد الرجل، وابتعدت كثيرًا في شارع منحدر، فلاحقها حتى وجدها بعد عناء، ولما حاول العودة حيث كان، لم يستطع بعد أن هده التعب، فركب سيارة أجرة، دفع لها قطعة النقد وورقة نقدية، فقد أجهد وخسر وقته وماله.
حقق العداء رقمًا قياسيًا جديدًا في قصة «البطل»، وتسلم الميدالية الذهبية «سأله الصحفي الأمريكي: منذ متى بدأت الركض؟ ضحك ودمعة تتدحرج على خده وقال: بدأت الركض مذ كنت طفلًا... أول مرة ركضت بسرعة خارقة كان عمري خمسة أعوام مع أمي هربًا من قصف طائراتكم ... وكنت أركض بعد أن أسرق الخبز والخضار لتأكل أمي المريضة وإخوتي الصغار... وتابعت الركض شابًا هربًا من أجهزة الدولة ... وركضت خلف فتاة عشقتها.. وبعد أن تزوجت كنت أركض نهارًا وليلًا خلف لقمة العيش. في وطني الملايين من الأبطال في الركض». وهذه حقيقة مؤلمة، فمعظم المواطنين لا يتوقفون عن الركض وراء لقمة العيش، ومن أجل توفير حياة كريمة لأسرهم، ومن يتوقف أو يقعد، لن ينال إلا الضياع والعيش بهوان.
في قصة «جوع»، ثمة مفارقة عجيبة جارحة «مئة إنسان يركضون خلف رغيف خبز... ومئة رغيف عند إنسان واحد... المئة إنسان أكلوا الرغيف... والمئة رغيف أكلوا إنسانية الإنسان». وهذا واقع نراه رأي العين، حيث تتكدس الثروات عند فئة قليلة فقدت إنسانيتها، والأكثرية تنال لقمتها بشق الأنفس.
ومن المفارقات الساخرة، قصة «تضارب»، حيث يقول الراوي: «كان من الصعب أن أهضم رواية الجوع للكاتب النرويجي كنوت همسون... حدث ذلك بعد أن تناولت طعامي المكون من المنسف الأردني باللحم البلدي»، فمن الصعب أن يشعر برواية الجوع من أتخم بالمنسف، وكذلك لن يتعاطف مع الجوعى إلا من جاع ذات يوم، ولن يقدر مأساة الفقر والحرمان إلا من عاشهما رغم أنفه.
الجوع العاطفي
في قصة «أمهات»، أقاموا لها حفلة بمناسبة عيد الأم، حفلت بالهدايا والكلمات الجميلة والعواطف الجياشة، «قالت لهم: إن كل أم في العالم تستحق مثل هذا التكريم.. أمضت الخادمات النهار في خدمة العائلة، ونصف الليل في تنظيف البيت، لكن الأمر وكالعادة لم يخلُ من بعض الكلمات القاسية والجارحة التي كن يسمعنها من الأم والعائلة. في النهاية ذهبت كل خادمة إلى بيتها وفي يدها وجبة طعام لتقدمها إلى أولادها وفي قلبها حلم بالعيد». إنه الكيل بمكيالين، فالأم المكرمة ومن احتفل بها، لا ينظرون للخادمات أنهن أمهات أيضًا، ومن حقهن التكريم، وعلى الأقل المعاملة الحسنة، وخاصة في مثل هذا اليوم، ولكنه الزيف عندما لا يرى المرء إلا نفسه، ومن أدنى منه لا يستحقون شيئًا، بل هم في نظره غير موجودين.
الرجل الدميم جدًا في قصة «لقاء»، لم تقبل به أي امرأة جميلة ولا متوسطة الجمال، وذات يوم رأى امرأة حسناء في حديقة، تمامًا كما كان يحلم بها، «نظراتها كانت تقول لي اقترب مني... دق قلبي بقوة، سرت رعشة في روحي، كدت أطير من الفرح.. وقفتُ أمامها... صرختْ في وجهي... لا تستعملني مرة أخرى في أحلامك»، فهذا المسكين لا يحق له أن يحلم بامرأة جميلة، وكذلك الفقير لا يحق له أن يحلم بالغنى، ولا ابن المزارع أن يكون مسؤولًا، فعلى كل أن يرضى بما قسم له، ولا ينظر إلى أعلى، إنها قسمة ضيزى، تضرب طموح البشر، وتدمر أحلامهم، وتقعد بهم وتقودهم إلى الحضيض، وعلى المرء مهما كان وضعه أن لا يستسلم وأن يكافح حتى النهاية ليرتقي بنفسه، وينال المكانة التي يستحقها بعمله وجهده.
ذات ليلة باردة تنذر بالثلج في قصة «رحيل أبيض»، كان الرجل يمشي بخطوات متعثرة وعيون زائغة، فقد حرم ممن يحب ويعشق لأنه أسود، ولكن «مع التساقط الغزير للثلج سرت رعشة في جسده... شعر أن السماء تطهر الكون.. تمتم بكلمات ..أبيض وقلبه أسود.. أسود وقلبه أبيض.. في الصباح كان أطفال الحي يتسابقون من أجل التقاط الصور مع الرجل الثلجي». القلوب السوداء وحدها من تميز بين ألوان الناس وجغرافيتهم، فكل الناس سواء، ولهم كامل الحقوق كغيرهم، ولكن القلوب السوداء تأبى إلا أن تصنع الحواجز والعراقيل وتحفر الخنادق الفاصلة، وهكذا قرر الرجل الأسود أن يتحول إلى رجل ثلجي أبيض، عله يحرك القلوب السوداء، فتشعر وتحس وتكف عن غيها.
يقول الشاعر في قصة «ذكرى»: «طرقات على باب بيتي... لم أصدق.. ربما هو حلم أو وهم... من يطرق باب شاعر..؟ .. بعد لحظات اكتشفت أن الباب يتمنى ويتذكر». حتى الباب يشعر بجوع عاطفي، ويتذكر من كانوا يطرقونه، ويتمنى أن يفعلوا من جديد. يا لقسوة الحياة، عندما تتصحر المشاعر، ويسود الجفاء، وتنقطع الصلات، ويعيش كل منا في قوقعته وحيدًا.
إن قصص مجموعة «من الأعماق»، جاءت في معظمها، صادمة، مؤثرة، توجه الصفعات لمن يستحقها، بذكاء وبراعة، ركزت على المهمشين والمحرومين والجوعى، ولم توفر المثقفين والمسؤولين وغيرهم، فكشفت وعرت ومزقت الأقنعة. وهي المجموعة القصصية الأولى للصبيحي، وقد شارك من قبل في عدة مجموعات قصصية، ولديه مجموعة من المخطوطات برسم النشر.

 

 

المصدر: الدستور

06 Mar, 2021 11:35:10 AM
0

لمشاركة الخبر