«حيوات سحيقة» ليحيى القيسي والمنحى الإشراقي في السرد الروائي
«حيوات سحيقة» ليحيى القيسي والمنحى الإشراقي في السرد الروائي
بعد رواياته «باب الحيرة» 2006 و»أبناء السماء» 2010 و»الفردوس المحرم» 2016 و»بعد الحياة بخطوة» 2018 تصدر للكاتب الأردني يحيى القيسي رواية جديدة عن دار خطوط وظلال بعمان 2020 بعنوان «حيوات سحيقة» يتناول فيها إحدى الشخصيات التي تمتزج فيها الواقعية بالغرائبية. فصالح الذي يقترب من الأربعين عمل في التدريس، فدليلا سياحيا، فباحثا في مركز للدراسات. يرافق فريقا تلفزيونيا قادما من لندن ليصور فيلما عن رحلات السويسري بيركهارت عام 1812 إلى تمبكتو مرورا باسطمبول فحلب، فشرق الأردن الذي اكتشف في جنوبه مدينة بترا. (ص8)
وتشاء الصدف أن يتعرف في هذه الرحلة على عدد من الأجانب، أولهم غاريث المشرف على إعداد الفيلم، وماغي- فتاة نيوزيلاندية جاءت إلى البترا سائحة، وأعجبت بأحد البدو، وقررت الزواج منه - هنا لم يذكر الكاتب كيف اتفق لهما ذلك مع ما بين الاثنين من تباين في العرق والثقافة والدين والمستوى الحضاري- وورثت عمله بعد وفاته، واتخذت اسما جديدًا أم رامي. وألفت كتابا بعنوان تزوجت بدويا بيعت منه على ذمة الراوي آلاف النسخ. وأليس، وهي إنجليزية، تقيم مع والديها في عمان، جيء بها لتؤدي دور ماغي في فيلم آخر. وفي زيارته للندن يتعرف على أشخاص منهم ستيف الباحث في الماورائيات، رئيس الجمعية الروحية، ودوروثي التي تجري له عملية تنويم مغناطيسي(ص130- 135).
وفي اللقاء الأول الذي ضم الجميع على شرف بيركهارت، وإصراره على زيارة مقام هرون (ص12) وتقديم الأضحية (ص17) قدر لصالح الانفراد عن الجميع لقضاء حاجته البيولوجية- تفريغ مثانته – فزلت قدمه، وسقط في حفرة كأنها كانت تفغر فاها، وتنتظر افتراسه على أحرّ من الجمر. (ص22) وفي تلك الحفرة قضى ليلة نابغية عانى فيها من آلام الكسْور والرضوض، والكدمات في الوجه والرأس. غير أن المؤلف- للأسف - لم يلتفت، ولم يتنبه لشيء مهم، وهو وجوب انتباه الفريق التلفزيوني المنشغل بشيّ الجَدْي، والاستمتاع بوجبة (الباربكيو) لرفيقهم، مع أنه الدليل الذي يقودهم، ويرشدهم للطريق الذي اجتازه المكتشف السويسري، ويمتلك هاتفا محمولا مثلما يمتلكون، وكان بالإمكان أن يتواصلوا. ولكنهم لم يفطنوا له، ولم يسألوا عنه، إلى أنْ فوجئ القارئ بمروحيّة تبحث عنه بين الخرائب.
وإذا تجاوز القارئ هذه الثغرة الكبيرة، يكتشف أنّ صالحًا بعد أن كُسرت ساقه، وبعد الرضوض، تغيرت حياته رأسا على عقب. ففيما هو عالق، وقد سد التراب المَهيل ثغرة الحفرة، قاضيا على أي أمل له بالنجاة، شرع يتلهى، بالنظر فيما حوله ليكتشف أن هذه الحفرة تنتهي بما يشبه سردابا يؤدي إلى كهف قد يقود إلى الكشف عن مدينة أخرى تحت البترا. في الأثناء عثر على إناء من الفخار يشبه الجرة الصغيرة، وكسَرَهُ، فإذا فيه شيء كالعسل، فذاقه، وحفز مذاقه خلايا الدماغ، فتخيل نفسه شخصًا آخر يرى أشياء غريبة، فتصورها وقائع حياة كان قد عاشها أحد أجداده في أزمنة مبكرة. ثم استعادها بفعل ذلك المُحفّز (ص 31 و 64).
على أيّة حال، بعد إنقاذه في مشهد دراماتيكي يُذكرنا بالأفلام الهوليوديّة، أجْريَت له الإسعافات، ونقل إلى المشفى، ثم نصح بالعودة إلى الزرقاء حيث أمه وأخوه محمود وأخوه حسن يعتنون به إلى أن يبرأ. وفي الانتظار استعاد بعض نشاطه الاجتماعي عن طريق الزيارات، وتبادل الأحاديث. لكن زيارة واحدة منها هي التي سلط المؤلف عليها الضوء. نعني زيارة ابي حذيفة- النمس سابقا- وهو أحد زملائه في المدرسة، وكان من أكثر الطلاب شرا، وبعدا عن الدين، والأخلاق، لكنه - بقدرة قادر- تغير تغيرا كبيرا، فقد أطال لحيته، وارتدى دشداشا قصيرا، والتزم بالسواك، وفي فصل الزيارة يجد القارئ رسما كاريكاتيريا لأحد الجهاديين الذين ما إن يظفروا بسامع ينصت لهم، ولو مكرها، حتى تتدفق على ألسنتهم الآيات، والأحاديث، والفتاوى، والدعوات للصلاة، وتكفير من لا ينضم إليهم في مجاهدة دولة الكفر، والطغيان (ص 50- 54).
ومن هذا المشهد يتضح أنّ وقائع رواية القيسي تجري في العام 2011 أو بعده بقليل، فقد صدرت الإشارات من النمس لمجاهدة الطغمة الكافرة بدمشق، والرافضة في العراق، على أن هذا الجهادي لم يلبث أن لقي حتفه في سوريا إثر اشتباكات بين تنظيمه وتنظيم جهادي آخر.
وتبدو حكاية أبي حذيفة هذه، وما ترتب عليها من اعتقال حسن، الشقيق الأصغر لصالح، حكاية لا علاقة لها بالحبكة الرئيسة للحيوات السحيقة، أعني ما يتعلق بصالح. فلو حُذفت حذفا كاملا من النص لما ترتب على حذفها أيّ نقْص، مثلما لا يترتب على وجودها أي أثر جلي في إشكالية صالح مع (الحيوات) السحيقة التي لا يُعرف ما هي. فصالح، بعد أن شفي من آثار السقوط في الحفرة، عاد إلى سابق عهده. ووجد عملا جديدا (ص 87) وتواصل مع غاريث، وشارك الفريق في إعداد سيناريو لفيلم ماغي البدوية (ص55) وفي هذه الأثناء اكتشف غاريث شيئا مما تعرض له صالح في أثناء مسيرهما في (السيق) المؤدي لمعالم البترا. ولا سيما بعد أن فسَّر له صالح ما قام به. قال له: رأيت سيولا من المياه تتدفق في (السيق) توشك أن تجرفنا معها مثلما تجرف الأتربة فاعتصمتُ بالجبل، وأما غاريث الذي لم يرَ شيئا مما ادّعاه صالح، فقد حار في أمره، وأخبره أن هذه الحال لا يحسن السكوت عليها، وينبغي له أن يعرض نفسه على طبيب.
حبكة الرواية
من هنا تبدأ إذن حبكة الرواية، فالمشكلة هي: كيف يمكن أن يتخلص صالح من هاتيك الحالات التي تعتاده بين حين وآخر؟ وهي حالات لا يجدون لها تفسيرًا. وقد نصحوه أخيرا بالتوجه إلى لندن وزيارة الجمعية الروحية (ص83) وعندما زار لندن للمشاركة في احتفالات (تدشين)الفيلم الوثائقي عن بيركهارت، وعن ماغي البدوية، عرض نفسه على الجمعية، وقابل كلا من ستيف ودوروثي التي أخضعته للتنويم المغناطيسي. وفي هذا التنويم يرى صالح العجائب التي يصفها لنا في الفصل الموسوم بعنوان قاب قوسين أو أدنى (ص137- 143) وهو وصفٌ يذكرنا بطوفان نوح، وما تشير إليه الكتب المقدسة، وشروحها، من تفاصيل، حتى إن دعوة نوح ابنه ليركب معهم في الفلك خوطبَ بها صالح « يا بني اركب معنا ولا تكن من المغرقين « وهذا غير دقيق (مع الكافرين: هود، الآية: 43) وهذه الرؤيا التي عصفت بكيان صالح، وهو تحت تأثير التنويم تعني أن هذا الرجل تتناوب عليه حياةٌ في زمن جرَفَتْ السيول فيه مجموعة من الرهبان، كانوا في زيارة للبترا، و حياة أخرى في زمن كان فيه أحد أتباع الحلاج، وأحد مريديه، وقد شهد إعدامه في عرض بانورامي، وحياة أخرى كان فيها موجودًا زمن نوح (عليه السلام).. مما يذكرنا بعقيدة التقمُّص عند الدروز، أو بتناسخ الأرواح لدى قدماء المصريين. ولو طرح القارئ على المؤلف سؤالا، وهو: ما الذي تريد الرواية قوله ؟ إذ لو سلمنا جدلا بأن هذا الشخص رُفع عنه الحجاب، ورأى نفسه يعيش في أزمنة ممتدة من الماضي إلى الآن، فما النتيجة النهائية، والمحصلة الأخيرة لكل هذا؟. هل تريد أن تقول: إن صالحا هذا يعاني من الجنون أو المرض النفسي؟ أليس الذين يعانون الجنون والمرض النفسي موجودين في كل مكان، وفي كل آن، فما الذي ينفرد به صالح عن سائر المجانين، أو المرضى؟ وحتى عندما قرَّر العودة للبترا، واستعادة الطريق إلى الكهف الافتراضي، وجرار العسل التي ترمز لحلاوة الحياة، فما الداعي لهذا كله ما دامت النتيجة هي اختفاؤه؟ وما قيمة تلك البحوث التي أعدها لمركز الدراسات عن جذور العنف والتطرف في التاريخ الإسلامي المبكر، وهو شيء عارضته فيه أليس عندما ذكرته بما في التاريخ المسيحي أيضا من عنف وتطرف، ومذابح البروتستانت خير مثال لذلك؟ وهل يريد منا المؤلف أن نصغي لنصائح أليس، وهي تخاطب صالحًا بقولها: « لست صالح (كذا) الذي التقيته أول مرة. لدينا طريقان مختلفان. أنت مصر على الغوص عميقا في وحل الماضي، وأنا أحاول الذهاب إلى حاضر أكثر أمنا يحتفي بالحياة « (ص163). فلو أن هذه النصائح، التي تفرّق بين أناس ينكرون حاضرهم لصالح الماضي، وآخرين ينكرون الماضي لصالح الحاضر الراهن، وضعت في سياق آخر لكان الخطاب في الرواية مقبولا من حيث محتواه الإيديولوجي، لكن المؤلف جعل صالحا يتخذ هذا الموقف مُجبرا، لا مخيَّرا، فالسقوط في الحفرة، ورفع الحجاب، عاملان غير ذاتيين، فهو سقوط نفسي وذهني متكرر بفعل قدَري كسقوط البطل التراجيدي في المسرح الإغريقي، أي أنَّ البطل لا يَدَ له في هذه الخيارات.
والرواية لا تخلو من تشويق يظهر في مواقع، ويختفي في أخرى، فالفصول التي عني فيها صالح بالبحث لتأليف كتاب بعنوان « الكتاب الأبيض» والوصف المطول لما يراه في الكوابيس، بما ينطوي عليه من غرائب، فصول تخلو من التشويق. على أن الفصل الذي يتصل بأبي حذيفة، وباعتقال حسن، فصلان مشوقان على الرغم من أن علاقتهما بحكة الرواية علاقة واهية، إذ يجد فيهما القارئ العادي ما يشدّه. ومع هذا التشويق لا يسلم البناء من بعض الاستطرادات. فما إن أشار لعودة صالح للزرقاء حتى بادر للحديث عن موقع المدينة، وعن نشأتها، والجماعات التي نزحت إليها، واتخذت منها دار إقامة (ص40- 41) وهذا كله لا ضرورة لذكره . فمن منا لا يعرف الزرقاء ثاني مدينة من حيث عدد السكان؟ علاوة على أن السارد أظهر صالحًا – وهو دليل سياحي- بمظهر من لا يعرف عن الأردن إلا القليل، بدليل أنَّ أليس التي ترافقه في إحدى الجولات هي التي تعرفه بالعديد من المدن والقرى (ص97- 98) وهذا غير معقول، ولا مقبول. فوق هذا لا بد من إقناع القارئ بأن السيدة ماغي وجدت فعلا ما يحفزها على ذلك الهيام والشغف غير المتوقع بمن تزوجته، وما هي درجة العشق التي تدفع بها للتخلي عن بلادها، وعن أهلها، والعيش وحيدة غريبة بين آثار الأنباط ، وخرائب الأعراب.
وفي (حيوات) سحيقة شيء مما يلاحظه المتابع في رواية القيسي الأولى « باب الحيرة « ونعني بهذا تصنع الكاتب في لغة السرد، فهو ينحو فيها منحىً إشراقيا، عرفانيا، ينم على إدامة النظر في كتب التراث، ولا سيما كتب التصوف، وهذا، وإن تراءت فيه جماليات تبْهرُ القارئ، إلا أنه لا يتلاءم مع الرواية من حيث هي فن أدبي، موضوعي، لا ذاتي، ينبغي له أن يُكْتب باللغة التي يسلس قيادها للقارئ العادي. فالقيسي في روايته هذه يستهدفُ النُخبة، لا القراء العاديّين، مع أن الرواية – أساسًا- تستهدفُ القارئ العادي في رأي فرجينيا وولف.
المصدر: الدستور