الهاشميون ومئوية الدولة
الهاشميون ومئوية الدولة
لا يمكن الحديث عن الدولة الأردنية التي نحتفي بمئويتها الأولى دون الوقوف بفخر واعتزاز عند صانعي هذا الإنجاز، وباعثي رؤاه في الآخرين، إنّهم الهاشميون قادة الأمة منذ فجر التاريخ، قدموا أرواحهم في سبيل نهضة الأمة، والدفاع عن قضاياها؛ ما جعل الشعر يحتفظ بصورة ناصعة للهاشمين فكرًا وإنجازًا وأملًا مشرقًا للأمة.
إنّ الإرث الهاشمي مصدر إلهام دائم، وبوح وجداني خصب، يُشعل وهج الذات، ويجعلها في حالة انبعاث مستمرّة، وبخاصة في ظل تسارع الأحداث السياسية، وتداعياتها الاقتصادية، وما يشهده العالم من صراعات عنيفة، جعلت من الفكر الهاشمي نموذجاً واضحاً للحكمة والاعتدال، ومنهلاً للفكر القومي بمرتكزاته التاريخية، وشرعيته الدينية.
لذلك فإنّ قصر رغدان العامر رمز راسخ لحضور الهاشميين الخالد، وانبعاثهم الخصب، وإرثهم العظيم، فهو بيت كلِّ الأردنيين، وموئل الأحرار، ومجلس الأدباء، شهد انطلاقة المدّ الحضاري لمدينة عمّان في العصر الحديث، ممّا جعله يمثل حالة نشوة دائمة التجدد، ترتبط بأفراح الأردنيين، وحبِّهم لآل هاشم، وما يمكن أن يبعثه المكان من رؤى إيجابيّة، وما يستدعيه من ذكريات النشأة، وأمل التحرير، والوحدة.
وديوان حيدر محمود الأخير «عباءات الفرح الأخضر» خير شاهد على اتّقاد الروح الوطنيّة في قصائده، وجعلها محورًا مهمًا، تنطلق منه الأفكار، وتتسق من خلاله الجمل في بنى نصيّة قادرة على حمل المضمون، ونقله إلى المتلقي وفق عملية اتّصال واضحة الرؤى، وجليّة المعاني.
ولعلّ عشق الشاعر للهاشميين يشكّل مشهدًا بارزًا في شعره الوطني، ولا عجب؛ فالهاشميون منذ القدم صانعو تاريخ وحضارة، سادوا بالمكارم والأخلاق لا بالمدح والألقاب، وهي حقيقة يُبرزها الشعر الأردني؛ ليرسم من خلالها صورة ناصعة لنضالهم في سبيل أمتهم، لذلك نجد حيدر محمود يشدو في أشعاره الوطنية بحبّ الهاشميين، ونضالهم في سبيل أمتهم، حيث يقول مخاطباً جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين (1):
لقد ورثْتَ عن الآباءِ رِقَّتَهُمْ
وبأسَهُمْ.. فتلاقى السَّهْلُ والجبَلُ
أرى غداً فيكَ، لا بَلْ بعده، وأرى
عيونَ أُمتنا بالعزِّ.. تكتحلُ
الأردنيون حول العرشِ، تَحرسُهُ
سُيوفُهُمْ.. وعليه تَسهرُ الأسلُ
ممّا جعل الوطن يتشكّل وفق هذه العلاقة العشقيّة التي تتجسّد في تشبيهات الشاعر الخصبة، وكأنّه يرسم الوطن الأجمل الذي يراه بعيني عاشق لا تغمض، حيث يقول متغزلاً بوطنه ( 2):
جبينُكَ للمجدِ بوابةٌ
تَرِفُّ عليها بنودُ العُلى
وأهدابُكَ النُّجْلُ:
خيمةُ عِزٍّ..
كتبْنا على صَدْرِها: يا هلا
تباركتَ يا وطني موئِلا..
ويسرد محمد سمحان في قصيدة (اللامية الهاشمية) قصة الاستقلال وأسطورة المجد التي سطّرها جنود الثورة العربية الكبرى، حيث يقول (3):
فإذا الإمارة شعلة في ليلنا..
تحيي القلوب.. وتنعش الأمالا
وإذا بعمان الفتية.. تزدهي..
وتميس في حلل الإباء.. دلالا
وإذا الأمير الهاشمي.. بوعيه
يعلي الصروح وَيُلْهم الأجيالا
حتى غدا رغدان.. قِبلة أمة..
قد وزعوها.. يمنة وشمالا
وصورة الهاشميين ملازمة لفضاءات الشعراء الوطنية؛ لما يمثله الهاشميون من نبض وطني صادق، ووجد دافق، يمنح الشعر ألقاً واضحًا ويبعث الشعور بالطمأنية والسمو في النفس، فهم حملة رسالة خالدة، وقادة أمة، ممّا جعل الشعر ملاصقًا لهذه الصورة الناصعة، كما في قول سعيد يعقوب (4):
حَملوا الرِّسالةَ ثورةً عربيةً
وسَعَوْا للمِّ الشَّمْلِ بعد تَفرُّقِ
ومضوا لوحدةِ أمّةٍ قد مُزِّقتْ
أجزاؤها في الليلِ شَرِّ مُمَزَّقِ
بعثوا العزائمَ من طويلِ رقادِها
فَتدفَّقَ الأحـرارُ أيَّ تَدَفّـُقِ
سمعوا الرَّصاصةَ حين دوّى صوتها
كالرّعد في سمع الفضاء المطرق
لبُّوا النّداءَ فحينَ لامَسَ سمْعَهمْ
مِن مَغْرِبٍ جاءوا إليه ومَشْرِقِ
وقد عبّر مصطفى وهبي التل عن جانب مضيء من تضحيات الهاشميين وذلك في رثاء مفجّر الثورة العربية الكبرى الحسين بن علي – طيب الله ثراه – حيث يظهر الاتجاه القومي واضحاً؛ لخصوصية الملك الراحل، وتضحيته بعرشه في سبيل الأمة، والمطالبة باستقلالها (5):
أمحررَ الشَّعبِ الهـضيمِ
وناشـرُ الـحقِّ الدَّفـيـنْ
وَمـقُيـلُ عـثرةِ أُمـَّةٍ
أعيا النهـوضُ بها القُرونْ
ابنُ المـلوكِ أبو المـلو
كِ وسبطُ خيـرِ المرسـلينْ
ويستدعي حيدر محمود روح الملك الشهيد عبد الله الأول ابن الحسين؛ ليعاتبها على رحيلها المفاجئ، الذي جاء في أحلك الظروف التي تعيشها الأمة، وهو استدعاء يبتعد فيه الشاعر عن تقليدية قصيدة الرثاء من ذكر مناقب الفقيد، أو البكاء عليه، متجاوزًا ذلك إلى إبراز انعكاسات حالة الفقد، وحجم الفراغ الذي تركه بعد رحيله (6):
ترجلّتَ قبلَ الأوانِ
لماذا ترجلّتَ
كُنّا على موعدٍ لصلاةِ الضُّحى
وانتظرناكَ،
مرِّ النهارُ الحزينُ.. بغيرِ أذانِ!
فهو يسرد حكاية الأمة مع الملك الشهيد، وذلك باستخدام تقنية استرجاع الحدث؛ لصياغة اللحظة الحاضرة، التي أصبحت فيها الأمة غير قادرة على التواصل مع الآخرين، وفقدت مقوّمًا مهمًا من ركائز نهضتها الحديثة.
واحتلّ جلالة الملك الباني الحسين بن طلال – رحمه الله – مكانة مهمة في الشعر الأردني ؛ إذ يعدّ جلالته ظاهرة قوية ومؤثرة، تركت بصماتها في جميع مجالات الحياة، واستطاعت خلال فترة حكمه المباركة أن تؤسس فكراً نهضويًا شاملاً على الصعيدين المادي والمعنوي، فضلاً عن أنّه يمثل نقطة تحوّل مهمة في تاريخ الأردن الحديث، تجاوزت حدود الزمان والمكان، لترسم آفاقًا مستقبلية، قادرة على التحدي، ومواجهة الصعوبات.
وقد واكب الشعر الأردني حياة الحسين، وسجّل إنجازاته وتضحياته في سبيل أمته، لذلك شكلّت وفاته فاجعة كبيرة، صدمت الوجدان الشعبي بكلّ فئاته العمرية، وأطيافه السياسية، ومستوياته الثقافية، إذ ظهر الشعر باكيًا قائده الراحل، ومستلهمًا إرثه الخالد.
وكان الشعراء أقدر الناس، وأكثرهم براعة في تصوير المصاب الجلل، فأخذوا يناجون القائد، ويعدّدون مآثره، ويشيدون بإنجازاته في كافة مناحي الحياة.
ويلتقط حيدر محمود مشهد جنازة الحسين، الذي بقي عالقًا في ذاكرة التاريخ مثلما رسخ في الوجدان الشعبي؛ ليبرهن على عظم حالة الفقد، ومكانة الراحل الكبيرة في قلوب الآخرين، إذ تجاوزت حدود المكان، لتشمل البشرية بأسرها (7):
أيُّ قَدْرٍ هـذا الـذي جَعـَلَ العالـمُ
يَسْعى إليـكَ.. مِنْ كُـلِّ قُـطْرِ؟!
لم يَجِيءْ للوداعِ.. بـل جاءَ يُهديكَ
- اعتـرافاً بالفضلِ – أعْظمَ شكْرِ
جاءَ يُصغِي لما تقولُ.. وفي صَمتِكَ
سِحْرٌ -يا سيّدي- أيُّ سِحْرِ..!
فلقد كُنتَ شاهِدَ الزَّمـنِ الصَّعــبِ
وقـد كُنتُ فيـه ليـلَةَ قـدْرِ..
وتخرج مريم الصيفي عن صمتها، وصدمتها عند تلقيها خبر الوفاة، لتمارس فعل النواح بنبرة خطابية، ولغة توحي بالألم، وعمق المأساة، وذلك بطرحها مجموعة من التساؤلات، تنبض بالحيرة، والعجز أمام مرارة الواقع، حيث تسجّل مآثر الراحل التي أنعم بها على شعبه، لذلك نجدها تقول بأسلوب المرأة الثكلى (8):
مَنْ للكسيرِ جناحه؟؟
مَنْ لليتامى؟.. للثكالى والأراملِ؟؟
مَنْ للضعيفِ المستجيرِ
إذا استبدّ زَمانُهُ؟؟
من للقلوبِ النائحاتِ
يَحْزُّها ألمُ الفراقِ..؟؟
وفي حقيقة الأمر فإن الشعر الذي نُظم في الهاشميين مدحًا أو رثاءً يعكس أمل الأمة بالتحرر، ممّا جعل من الهاشميين رمزًا للعروبة المتّقدة، حتى أن الشاعر إبراهيم المبيضين أكثر من هذه القصائد التي سماها بالهاشميّات، كما في قصيدته التي رفعها إلى جلالة المغفور له الحسين بن طلال بمناسبة عيد الجلوس الملكي، حيث يقول (9):
حسينُ سيّد عدنان وفارسها
سبطُ النبي حفيدُ المنقذ العربي
من أكبرت أممُ الدنيا بسالته
وأيدته قلوبُ الشعبِ مـن كثب
من معشر طهر الرحمن بنيهمو
وبارك الله ما شادوا من الحسب
أئمة عطّر التاريخُ ذكرهمو
فمجدهم راسخ البنيان والطنب
لقد أبرز الشعر الأردني صورة الهاشميين الناصعة، وإرثهم النهضوي الخالد، والماثل في رسالة الثورة العربية الكبرى، وهو معنى واضح تردد كثيراً عند الشعراء العرب في حديثهم عن الثورة العربية الكبرى (10)، بوصفها أولى محاولات العرب الوحدويّة في القرن العشرين.
الهوامش:
1 ـ حيدر محمود: عباءات الفرح الأخضر، ط1، منشورات أمانة عمان الكبرى، 2007م، ص16.
2 ـ المصدر نفسه، ص21.
3 ـ محمد سمحان: أقانيم، ط1، دار الحقيقة الدولية للدراسات والأبحاث، عمّان، 2002م، ص30.
4 ـ سعيد يعقوب، الـدر الثمين من نفحات الهاشميين، ط1، مطبعة النور النموذجية، عمّان، 2007م، ص 56 ـ 58.
5 ـ مصطفى وهبي التل: عشيات وادي اليابس، جمع وتحقيق وتقديم زياد صالح الزعبي، ط3، دائرة الثقافة والفنون، عمان، 1982م، ص 382.
6 ـ حيدر محمود: الأعمال الشعريّة الكاملة، ط1، مكتبة عمان، د-ت، ص 233.
7 ـ المصدر نفسه، ص70.
8 ـ وائل بن طريف: رثاء الحسين في قلوب الشعراء، ط1، بلا مكان، 1999م، قصيدة للشاعرة بعنوان «هذا الجلال يليق بالحزن»، ص67.
9 ـ حسن المبيضين، وزميله، إبراهيم المبيضين، حياته وشعره، ص110.
10 ـ يُنظر: تركي المغيض، صدى الثورة العربيّة الكبرى في الشعر، ص80 وما بعدها
المصدر: الدستور