الهندي راج كمال جا يروي واقع مواطنيه البؤساء
عبثاً نحاول تصنيف النص الأخير للكاتب الهندي راج كمال جا، الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية. فهل هو مجموعة حكايات للأطفال؟ سردية خيالية؟ رواية بوليسية؟ نص ينتمي إلى الواقعية السحرية؟ الأكيد هو أنه مزيجٌ حاذق من كل هذه الأنواع الأدبية وغيرها، ويشبه بالتالي طبقاً هندياً يصعب تحديد مكوّناته، لكننا نتذوّقه، أو بالأحرى نلتهمه، بسعادةٍ نادرة.
حوادث هذا العمل الفذّ تنطلق في مدينة «نيو سيتي» خلال ليلةٍ تستسلم فيها أمٌّ لطقس تذكّرٍ، في الوقت الذي يحلم رجل بجريمة قتل على الطرف الآخر من المدينة، ويوضع طفلٌ رضيع على مدخل مأوى للأطفال. ما تتشاركه هذه الشخصيات الثلاث لن يتجلّى للقارئ إلا تدريجياً، لكن ما يمكننا أن نقوله فوراً عنها هو أن الكاتب يحرمها من اسم يعرّف بها، فتحضر بصفتها الأوّلية، أي «امرأة» و «رجل» و «طفل»، بخلاف معظم الشخصيات الثانوية. وما يمكن أن يبدو عند الوهلة الأولى تقليصاً لهويتها هو في الواقع عكس ذلك، وتحديداً وسيلة ناجعة لجأ كمال جا إليها للتدليل على طابعها النموذجي، وبالتالي على تمثيلها عدداً كبيراً من أبناء وطنه.
«امرأة» هي أمٌّ تتألم من فقدان زوجها الحنون باكراً، ومن مغادرة ابنتها الوحيدة المنزل في شكلٍ فاجئ، ومن عدم تمكّنها من عيش قصة حبّها الجديدة في شكلٍ علني. على طول النص، نجدها تسعى عبثاً إلى البوح لابنتها، التي عادت إلى المنزل العائلي محطّمة بعد سنوات طويلة من الغياب، بماضيها معها ومع والدها، ثم مع حبيبها الجديد، على أمل التحرّر من عبء هذه السنوات والإفلات من شعورٍ بالذنب يقضّ مضجعها.
«رجل» هو شاب من أصول فقيرة تمكّن من جمع ثروة كبيرة بفضل عمله مع المؤسسات المالية، ويعيش في «نيو سيتي» داخل شقة مساحتها ألفا متر مربّع ويتوافر فيها أكثر بكثير مما يلزم لراحة شخصٍ واحد. شاب غريب الأطوار يبدو لنا بسرعة كشخصية منحرفة وسيكوباتيّة. فحتى في أحلامه الأكثر رقّة التي يظهر فيها برفقة فتاة صغيرة تمسك ببالونٍ أحمر، تنتهي الأمور دائماً بجريمةٍ بشعة. وسواء في المترو أو في سيارته التي يقودها سائق خاص، نراه يتأمّل الناس حوله أو يسافر داخل ذهنه إلى باريس أو سنغافورة حيث يعيش أحد أقرب أصدقائه، مستسلماً لهذيانٍ أسوَد مشحون برغبات في القتل.
أما «طفل» فرضيع يمنحه مدير المأوى، السيد شارما، اسم «يتيم». ومع أنه غير قادر على الكلام أو الوقوف على قدميه، لكنه لن يلبث أن يبرهن عن كفاءات تذهل سكرتيرة المأوى، السيدة شوبرا، والممرضة الشابة كيلياني داس التي تعتني به وتتعلّق به، قبل أن يتوارى من المأوى خلال ليلةٍ عاصفة في ظروفٍ غريبة.
قصصٌ ثلاث إذاً نتعرّف إلى تفاصيلها بالتتابع داخل كل فصل من فصول هذه السردية المشوّقة، وتبدو في البداية مستقلّة في حوادثها، قبل أن تتجلّى روابطها تدريجياً خلال القراءة. كما لو أن الكاتب يعزف داخل سرديته مدوّنات موسيقية ثلاثاً لن تلبث أن تنصهر تحت أنظارنا لتؤلّف مدوّنة واحدة ساحرة تنضم فيها إلى الشخصيات الرئيسية الثلاث شخصيات كثيرة أخرى، مؤثّرة أو سطحية، كفتاة البالون الأحمر التي سبق ذكرها، أو مقدّمة برامج تلفزيونية شهيرة، أو كلبة أمومية تدعى «بو» وتحمل الطفل «يتيم» على ظهرها أثناء رحلة فراره من المأوى وتعتني به، قبل أن تسلّمه إلى الآنسة روز، وهي عجوز تعيش بطريقة خفيّة في صالة سينما داخل مجمَّع تجاري ضخم، من دون أن ننسى الصرصار الذي كان طفلاً في حياةٍ سابقة ويعيش في بركة السباحة التابعة لفندقٍ فخم شُيِّد على أنقاض منزل والديه.
شخصيات ثانوية لكنها تمنح سردية كمال جا توازنها بتشكيلها كمّاً من الشهادات على وضعٍ اجتماعي واقتصادي مأساوي في مدينة «نيو سيتي»، يعكسه خصوصاً وضع الممرضة الشابة كيلياني الذي لن يكتفي قدرها بتدمير طموحاتها الكبيرة والمشروعة، بل سيسمّرها على أرض الغرفة الوحيدة التي تعيش فيها مع أهلها، ويجعلها تصارع مرض السلّ بإمكانات مادية معدومة.
وهذا ما يقودنا إلى شخصية رئيسية رابعة داخل الرواية، ونقصد مدينة «نيو سيتي» نفسها التي تقع قرب نيودلهي، وهي من دون شك استعارة لمدينة جورجاون التي تشكّل مركزاً قيادياً ومالياً وصناعياً يعجّ بالفيلات والمجمّعات التجارية والفنادق الفخمة وناطحات السحاب التي تلامس الغيوم، وتحاصره الأحياء الفقيرة من كل الجهات. مدينة نتعرّف إلى الحياة فيها من قرب ونستنتح من دون صعوبة كيف أن الأغنياء يعيشون داخلها قرب السماء، بينما يتخبّط الفقراء في بؤسهم على أطرافها، حين لا يقطنون ويقتاتون من قمامتها.
باختصار، سردية ساحرة وغنية بحوادثها وشخصياتها ومواضيعها وحبكتها وأسلوب كتابتها الشعري. وإذ يتعذّر هنا التوقف عند كل إشراقات نصّها، نشير إلى أن هذا الثراء إن دلّ على شيء فعلى مهارات كاتب يفتح عينيه على وسعهما من أجل الإمساك بدقّة بالعالم الذي يحاول تصويره، مستعيناً في ذلك بموهبة سردية لافتة وحس تفصيلي مدهش، وخصوصاً بقدرته على التعاطف مع الآخرين وكشف إنسانيتهم.
من هنا التناغم المستشعر داخل روايـــة هــــي عبارة عن خليط تجـــريبي من القصص. تناغُم يعود إلى تــلك القدرة التي تُمكِّن كمال جا من استيعاب عذابات مواطنيه البؤساء والارتـــقاء بها. لكن قيمة هذه الرواية لا تقـــتصر على ذلك، فهنالك أيضاً مهارة صاحبها في إثارة مخيّلتنا وجــعلنا نفقد نقاط استدلالنا مراراً داخلها، وبالتالي في التلاعب معنا كمــا يتلاعب بشخصياته وأسلوبه المتحوّل وفقاً لكل قصة يسردها. وفي هذا السياق، يتجلى العالم الذي يصوّره خفيفاً، على رغم قسوته وانعدام إنسانيته؛ خفيفاً مثل بالون يحلّق في الهواء فوق مدينة فقدت بوصلتها وتبدو مهدّدة بالانهيار لكونها شُيِّدت على جروحٍ مفتوحة.
وفعلاً، تعيش معظم شخصيات كمال جا في «نيو سيتي» كرهائن أو ضحايا، ولا تجد السكينة والسلام إلا في فضائها الداخلي حيث كل شيء ممكن، بما في ذلك كلاب تبكي وتضحك وتتكلم وتطير. فضاء هو في الواقع الخيط الخفي الذي يربط كل القصص المسرودة، وأيضاً المكان الوحيد التي يمكن أن ترتفع فيه تلك المدينة الأخرى، المثالية، التي يعدنا الكاتب بها في عنوان روايته.