Skip to main content
قراءة في رواية «التي كانت أنا» لمنال حمدي

بينما يسير العالم كل يوم، ويتدفق الناس في كل اتجاه، وتتكاثر الأفكار، أو تقل، يمكن لأي شيء أن يغير حياة إنسان ما، فيتقوس الزمن، ويضيق المكان، وربما يولد هذا شعوراً بالنقص، في الوقت الذي ينزفه، في المشاعر الإنسانية التي تزيد من ثقله الوجودي بفقدان ما يحب ومن يحب، ولا بد أن حادثة من نوع ما، ستجعله يحتل مكاناً جديداً عليه في هذا العالم، فيسمى عاجزاً أو ضحية. 

 في حالات كهذه، يتقوقع فيها الإنسان على نفسه، وينحى ليرثي نفسه، ويرثي هذا العالم، ربما تكون أفضل أداة لهذا، هي الكتابة، حيث يعبر الفن الروائي، والسيرة الذاتية منه بالتحديد، خير تعبير عن مآلات الإنسان في متاهات داخله، وأخرى خارجه، لم يسلك معارجها من قبل. رواية «التي كانت أنا»، للكاتبة الأردنية منال حمدي، تسلك هذا الطريق، وبعنوان مؤشر، يضع الإنسان أمام ذاته، في مرآة الكتابة، وتضمن منذ العنوان، أن هنالك انقساماً على الذات، وتناقضات تغزو العلاقة بين الذات والعالم.

ولعل أفضل ما يمكن لي كقارئ الانتباه إليه، هو مدى قرب السيرة الروائية من حياة القارئ نفسه، ولعل الفكرة هنا لا تقودنا إلى البحث عن تشابه، بين القارئ والكاتب أو شخوصه، ولا بين حياة القارئ وحياة الكاتب. لسبب رئيسي، وهو أن هذه الرواية، منسوجة في الزمن الداخلي لراويها، وتستند في زمنها السردي على تغير المشاعر الداخلية، مما يجعل الزمن في الرواية لا يقاس إلا بحساسية هذه المشاعر، فهو يطول عند الألم أو الانتظار، يقصر في الابتسامة، ويتقوس عند الغضب واكتشاف الآخرين. لكن هذا، قد يؤدي ودون الحاجة لعقد أي مقارنة مما ذكرت، ليجد القارئ نفسه في مكان ما من هذا العمل، فكلنا فينا حزن وغضب وانتظار، وكلنا نقرأ، لنقتل الراوي، ونعيد سرد الرواية.

المكان، مجموعة من السوائل الطبية!، وأوراق تحمل نتائج الاختبارات الطبية، ويصير المكان مجرد سرير، وبمجرد أن يلقى عليه جسد ما، أصيب بحادث كاد يودي بحياته، حتى يصير هذا السرير، كل العالم، لكن ساكن هذا السرير، يتم التحكم بجسده من قبل الأطباء ومن يشرف عليه، ويصير بطريقة أو بأخرى، ملكاً للمرض والعطب من جهة، وملكاً للآخرين، فلا يبقى للإنسان سوى روحه وعقله، واللذين يغزوهما الألم في أحيان كثيرة، لكنه لا يمتلك نفسه، ولا يمتلك أن يدافع عن وجوده ووعيه، إلا بهما، ويقود الألم الراوية لتقول: «أعادتني الحياة بإكراه، إلى التكوين في رحم الأم الذي لا يشبه أسِرة المرضى، التي قد تذهب بنا إلى تشويه دائم وقسري».

ولعل بطلة الرواية، تهرب طوال العمل إلى البدايات، بعد أن عاشت مستويات مختلفة من الخسارة، خسارة العمل وسلامة الجسد، إضافة إلى خسارة الحب بعد إهمال من آخرين، وخسارتها كامرأة مثقفة وكاتبة، بعد أن شكل الألم والفقدان في حياتها، مبضعاً استطاعت من خلاله التمييز بين ما هو مزيف وواقعي، من الأصدقاء والمثقفين، وكل من كانوا في حياتها التي كانتها، وتحولوا عنها ربما، بينما بقي معها آخرون، حين اضطرت أن تتبنى حياة لم تردها. مما ردها دوماً إلى الأم التي تمنح البدايات، وكانت المفارقة في أنها اعتنت بوالدتها المريضة من قبل، إلى أن توفيت، فعاشت معاناة مرض الآخر ومرض الغير، اللذان كادا يتساويان في وقعهما المؤلم.

الرواية، التي جاءت في مئة وخمسين صفحة من القطع المتوسط، راوحت في تقنياتها السردية بين المونولوج الداخلي، الذي استخدم لغة شعرية أحياناً، وانزياحات مفاجئة تستدعي الواقع المباشر القابع خارج الذات، باستخدام أسماء الأطباء وأسماء الأدوية والأشخاص الذين بدوا شبحيين إضافة إلى شبحية الشخصية التي ظلت تتقمص حياتين، واحدة الآن، وواحدة كانت. مما أضفى طابع التقلب السريع والمتكرر للسرد بين هذين المستويين، طوال صفحات الرواية. 

وبكل حال، فإن فعل مقاومة المرض، ومحاولة النهوض الدائمة، من السرير، ومن أي سجن قسري يفرضه المرض على الجسد، تظل مبعث أمل. ولربما أن هذه الرواية، نجحت كونها أدباً مكتوباً، يمثل الإنسان كمركز للعالم، ويجعل من حقه أن يكتب ويروي، فالقصة تكتسب قيمتها من إطلالتها على العالم، وهذه هي مهمة الأدب اليوم. إذ استطاعت الرواية تصدير سيرة ذاتية، لتصير هماً للقارئ بعد الكاتب، وتمنحه فرصة للخروج من جزيرة جسده وعقله المعزولتين «الإنسان» في هذا العصر، ليتصل بحيوات الآخرين، ويكون جزءاً منها.

الدستور

11 Apr, 2017 10:27:14 AM
0

لمشاركة الخبر