Skip to main content
أ. د. عبدالرحيم مراشدة: العتبات النصية في رواية “سروال بلقيس″ لصبحي فحماوي

تتخذ النصوص الموازية في النصوص الإبداعية مساحات مهمة، راحت تشغل النقاد الحداثيين ، ويرون فيها مفاتيح مهمة لمقاربات النصوص والوقوف على الطبقات المعنوية المثارة فيها، ويرون فيها قوى عمل تسهم في استنطاق النص وتفكيكه ، بحسب جاك دريدا (1)  ، والرواية التي بين أيدينا (سروال بلقيس)  تحتضن نصوصاً من هذا القبيل، وقد اختارها منشئ النص لتشكل عتبات نصية مهمة لعبور الرواية، وكما نعلم فإن العتبات بمشتملاتها ناتجة عن تفكير أقرب للعقلانية منه للحظات الكتابة الورقية ، أو لحظات الإنخراط في العمل الكتابي ـ أثناء الكتابة ـ  حيث الغالب على النصوص،اختيار الكاتب للنصوص الموازية،أو العتباتية بعد الفراغ من العمل ، وقد يقصد منها تسجيل وجهة نظر له بشكل مختزل على العمل ، أو تقديم إضاءات معينة تساعد المتلقين على توجه محدد وصولا لخطاب النص ووجهة نظره.

    من النصوص الموازية والعتباتية التي نرصدها هنا ، التي يمكن أن تكون جزءاً محايثا للنصوص، أو جزءاً مسانداً للنص عند القراءة ما يلي:

  • العنوان :

للعنوان، بوصفه عتبة، حمولة فكرية ومشتملات معينة تظهر بمعاودة القراءة، وتثير أسئلة إشكالية، يمكن أن تجيب عنها مضمونات النص، وهذا ما ركز عليه النقد الحديث، فهذا حميد لحمداني،مثلاً، يرى: ” أن للعتبات حمولى أيديولوجية  خاصة ،تكون مقصودة  لتوجيه معنى القراءة ” (2)، بمعنى أنها تولد دلالات تلفت الانتباه منذ البداية وقبل الشروع في قراءة العمل بكليته، ويرى آخر في العنوان على أنه : ” يؤسس سياقاً دلالياً يهيء المستقبِل لتلقي النص” (3).

    لقد جاء العنوان لهذه الرواية ليشكل مفارقة لافتة، ويحمل دلالات ترتبط بتفاصيل أشياء حياتية ويومية معينة، لها ارتباط بذاكرة شعب معين وأمة معينة، وهي تبعث على المقارنة بين الأمس واليوم ، فهو ينبني ، في هذه الرواية، على جملة خبرية هي (سروال بلقيس)، وتقدم خبراً للباس شعبي كان له حضور معين في التراث العربي القديم خاصة، وله صفات معينة، فهو فضفاض ، وسهل وبسيط ، وقد أسند ملكيته وصفته للشخصية المسماة (بلقيس) ، وفي الذاكرة، كما نعلم، أن هذا الاسم للشخصية التيل تمتلك السروال، يحيل إلى ملكة من الملكات التي عرفها التاريخ القديم ، وله حضور ديني وشبه أسطوري ، ويتعلق بملكة سبأ، والنبي سليمان عليه السلام…الخ. فكأن الشخصية على بساطتها وشقائها ومتاعبها، تمثل المرأة الملكة النموذج، وتاتي ضمن مفارقة سياقية قصدية تقلب الدلالة المبدئية لتثير المسائل وتحث على التفكير.

        المرأة الفلسطينية بلقيس هي الملكة، بصفتها النضالية العميقة، وليست لابسة التاج، وصاحبة الملك الباذخ، والسروال هو بالتالي شئ ما يمتلكه الإنسان، وحضوره يعطي طقسية معينة، يمكن تخيلها في ذاكرة الإنسان في العالم العربي، وله – ربما – في ذاكرة الإنسان الشامي عامة، وفي ذاكرة الفلسطيني خاصة، خصوصية معينة، يستذكر بها حياته وتفاصيل حياته الماضية، وعلاقة هذه الحياة بالطبيعة الفلسطينية خاصة، والمستوى الطبقي والاجتماعي، بخاصة الانتماء لطبقة الفلاحين والبسطاء …الخ. وكما نعلم فإن الشئ يكتسب وجوده من وجود الإنسان، ووجود من يتعامل معه، وبدون هذا التعامل يكون شيئاً عرضيا مشاعاً، وجوده يكون معطلاً وخارج دائرة الاهتمام ، فالشيء – السروال هنا- اتخذ أهميته بمجرد إدخاله لبناء جملي، وفي سياق لغوي إبداعي معين، يحيل إلى دلالات ومعان يمكن أن تتحرك بمجردالقراءة ، وبمجرد الربط مع السياق الكلي للعمل الروائي، الذي تم من خلاله توظيف هذا  الشئ.

      الروائي باختياره القصدي للأشياء وما يحيط بها من أحداث وشخوص، وباستثمار علاقة السروال بالمجتمع والبيئة والتراث، أعطاه أبعاداً معينة تخدم استراتيجيات النص، فقد أضاف إلى وظيفة ستر العورة التي يمكن أن يراها العادي من المتلقين للسروال ، وظيفة اقتصادية ، معيشية مهمة، ولم يكتف بهذة الدلالة ، كما سنرى في السياق الذي جاء فيه، وإنما حمّله ببعد سياسي ساخر ومرير، في الوقت نفسه ، عندما  جعله علما، وتحته يقوم الصبية والناس بتأدية النشيد الوطني ؟! وهذا السروال هو ملكية لبلقيس المرأة، الشخصية المحورية، النموذج على لامرأة الفلسطينية صاحبة القضية، وهو العلامة التي تميزها عن غيرها، لقدرتها على استثمار السروال في وظائف عدة.

        هذه اللقطات المهمة في الرواية ، تتوضح من هذه الأشياء التي تبدو خارج الرواية بسيطة وعرضية، وكثيرمن المبدعين الكبار جعلوا من الأشياء العرضية أشياء مهمة في النص الروائي ، ومن ذلك على سبيل المثال: (سارتر) في روايته (الغثيان) ، ومثله فعل (كافكا) في بعض الشخوص في رواياته، كما فعل في رواية (الصرصور) ، ولنلاحظ السياق التالي، على لسان المرأة بلقيس نفسها، التي تدير المشهد هنا، في حوار لها مع رفيقتي الدرب والنزوح، صالحة وحمدة المحمودية ، وهو سياق يسند ما ذهبنا إليه من رأي :

    ” هذا سروال بلقيس يجب أن يرفعه أولادي  مثل العلم ، ويمشوا تحته ،لأنه هو الذي يطعمهم، ويبعد عنهم شبح الجوع، تُدهش المرأتان لثقتها بنفسها ، وجرأتها في التصرف، فتقول صالحة السمراء لحمدة، وهي فاقعة من الضحك،على هذه السخرية المرة : تخيلي سروال بلقيس هذا، وهو يرفع علماً على سارية، وتحته يصطف أطفالها أمام خيمتهم كما يصطفون أمام خيمة المدرسة، محيين العلم، وهم ينشدون نشيدنا الوطني:

موطني ،موطني

الجلال والجمال ، والسناء والبهاء

في رباك، في رباك

والحياة والنجاة ، والهناء والرجاء

في هواك، في هواك…الخ” (4).

     عنوان الرواية (سروال بلقيس) أصبح دالة فكرية أيديولوجية بامتياز، وقد تمكن الروائي من شحنه بمعطيات جعلها تردعلى لسان الشخصيات ، وتترابط مع مكونات الرواية، لتقدم للمتلقين مادة فكرية، وثقافية، وسياسية، واجتماعية في الآن نفسه، وتبلغ السخرية مداها لهذا الشئ / السروال، وتفاصيله عندما يجعل الراوي منه المخبأ المناسب لسرقة الزيتون من الحقول، ولا تجد بلقيس غضاضة في هذا الفعل حتى في أصعب المواقف، خاصة عندما سألها صاحب مزرعة الزيتون عن الزيتون الذي سرقته وأخفته في السروال، لكنه لن يجرؤ على التفتيش عن الزيتون، لأنه في سروالها المربوط من أسفل، وهي كذلك تبرر هذه السرقة لرفيقاتها، وتبين لهن أن هذا من الفعل الحلا، بل هذا فعلٌ مطلوب،  ذلك أن المزارعين الأغنياء لا يدفعون الزكاة  للفقراء والبسطاء من الناس .

     يحاول السارد التوكيد والتمركز على هذا الحدث، وما فيه من أشياء وتفاصيل جزئية، فها هي بلقيس تجابه موقفا حرجاً، لكنها تتعامل معه بكرامة، وبعنف النساء اللواتي يمتلكن الثقة، فها هو  الحارس لمزرعة الزيتون يراودها عن نفسها وتجيب بعد عرضه غير النظيف، عندما يرواودها عن نفسها ثمناً لما أخذت من الزيتون في سروالها وهذا ما نجده في الحوار بين الحارس وبين بلقيس في السياق التالي:” ما رأيك أن ندخل هذه المغارة سويا، وهناك سأقدم لك كل ما تريدينه من ثمار الزيتون،الحبة طولها شبر،وهناك أعطيك كل ما تريدينه من الزيت؟ شعرت بلقيس بإهانة كرامتها المثقلة بثمار الزيتون، ….وأنها ستنهار بكل أبعادها عندما تكون فريسة لضبع نتن كهذا….” (5) وترد عليه:” عزا عزايين أي ولك إنت يا قابر أمك، بدك تدخنلي إلى المغارة.!  والله لو أركِّب هنا (تقصد ما بين ساقيها) .().طين إلا أفعل فيك وأشفي غليلي منك، ومن أمك…” (6) وتكمل بكلمات بذيئة له، وما كان من الحارس إلا أن انهارت سطوته “(7)

هذا السلوك الساخن المنطلق من إمرأة تعرضت لإهانة، مكّنها من الخلاص والدفاع عن نفسها بجرأة لافتة.

أصبح السروال ليس عنوانا فقط، وإنما أسطره الروائي ليصل إلى حد الترميز، من خلال ما أورده من حكاية له وللمرأة التي تلبسه، وبحق كانت بلقيس الأكثر جرأة وسلطة حتى على الرجل .

        توضح الشخصية السالفة، في تلفظاتها وكيفيات التعبير السابقة لديها، وما يقترب من هذه السياقات، إشكالية النزوح والهجرة، وما يصاحبها من امتهان للإنسان وشرفه وعرضه، والمصاعب التي تهدد وجوده، وقد أحسن الروائي صنعاً عندما استثمر مسألة تداخل الأجناس في نصه الروائي، فأدخل قصيدة لإبراهيم طوقان، وتمكن من إجراء تحويرات في التلقي، فيما يتعلق  بهذه القصيدة ومضمونها التقليدي المفترض، بعد أن ضمها لسياق النص، ليقدم مدى تهافت الأنظمة في الحفاظ على الأوطان والإنسان، فقدم مشهدية لافتة، وقام بمسرحة الحدث، لإنجاز الدلالة المتصورة ، يقود المتلقي إلى المقارنة بين زمنين: زمن اشتعال القومية العربية، وهو الزمن الإيجابي ،وبين زمن يأتي على النقيض، ويغطي ما يحصل الآن، بعد الهزائم المتتالية للعرب من القوى الاستعمارية وعلى رأسها الصهيونية.

 

ب – الإهداء : جاء الإهداء على الشكل التالي: (إلى الأم بلقيس، رمزاً للشقاء والتحدي!) وهذا على خلاف العادة الغالبة، ليس إلى حبيبة أو صديق عزيز على الكاتب، ولا حتى للأسرة والأبناء …الخ، وإنما جاء لشخصية من شخصيات الرواية ، الشخصية المحورية في هذه المدونة، وفي ذلك قصدية تلفت الانتباه، حيث الشخصية مختلقة ، قد تكون قريبة أو بعيدة من مضارع لها في الواقع، لكنها محوّرة وتم تمثلها واستثمارها بكيفية تخدم وجهة النظر الفنية في النص، وكما نعلم، فإن الإهداء كما العنوان،  وأية نصوص أخرى غالباً ما تكتب من مرحلة الوعي والعقل، بعد الانتهاء من العمل، وبالتالي يضفي الروائي على الشخصية التي أهداها العمل صفات الأمومة، وليست أية أم، والإهداء شخصياً إليها، وكأني به يقيم معها علاقة حميمية، روحية ونفسية تجعلها تستأهل هذا الإهداء ويزيد .

       الروائي هنا يخلق شخصياته ويبتكرها ، ويتواصل معها كما لو حقيقة بين يديها ، رغم أنه يستحضرها من عوالمه ومرجعياته الخاصة به ، وقد جعلها اماً ليعطيها بعد القداسة والحنان والقرب، وجعلها كذلك رمزاً ، ولكنه حدد هذا الرمز، وأطّره ضمن مسار الشخصية عبر الأحداث والمسارات :الفكرية، والاجتماعية، والفنية, التي سارت عليها الرواية، وجعل الرمز ليس رمزاً قدسياً وله هالات إيجابية وباذخة، وإنما ربط رمز بلقيس بالشقاء والتحدي، وفي ذلك مفارقة لافتة، فرغم الفاقة والفقر والظروف التي تعيشها من نزوح وألم وفقد للهوية والوطن والحيا…لكنها لم تستسلم، وهذه السمات أرادها للمرأة الفلسطينية، وللمرأة التي تقدس تراب الوطن، والإنسان المتمسك بعروبته وقوميته وحياته الكريمة مهما كان، فالشقاء والتحدي لبلقيس جاء من تفاصيل حياتها اليومية، والأشياء التي تعاملت معها في وجودها وكينونتها، اختلفت باختلاف الأمكنة والأزمنة التي كانت تشكل لها عالماً صعباً تحاول التكيف معه، فابتدعت أدوات، واختارت الطبيعة ونباتاتها للغذاء واستمرارية الوجود، وتحدت أصعب الظروف للخلاص إلى بر الأمان مع أولادها وأسرتها كافة.

ج – التصديــر: كان التصدير الذي اختاره صبحي فحماوي لروايته من مرجعية دينية، فذهب إلى إنجيل متى، الإصحاح العاشر، وأثبت منه النص التالي: “لاتخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها” (8) ، هذا الاختيار قائم على التناص من المرجعيات الدينية، وفيه رسالة مستخلصة ، اختزالية، لوجهة نظر الروائي على نصه، وقد تصلنا  من هذا التصدير الحكمة العميقة، وفلسفتها التي يمكن أن نجدها مبثوثة في سياقات الرواية، لنصل إلى موافقة أساسية منهاعلى سبيل المثال: أن عذاب الروح والنفس أقسى من عذاب الجسد ومعاناته، وهذا بالطبع يمكن أن نصفه بالمطلق على ما وقع من تعسف،وظلم وقتل للقيم النبيلة، وتهديم لنفسية المقاوم عند الشعب الفلسطيني، والعبث بممتلكاته وأشيائه التي خلفها في فلسطين، فالبيوت الفارهة على شواطئ البحر، والأشياء الثمينة التي كان يحتفظ بها، بوصفها تراثاً له، فهي تعطي بعداً قيميا وحضاريا لتاريخه الضارب في العمق، من الآن وحتى الأرث الكنعاني العظيم، كل هذه الأشياء وغيرها تكشف عنه الرواية في مسار الأحداث التي اعترضت شخوص الرواية وكانت بمثابة نماذج من الشعب الفلسطيني الذي انتشر في الشتات. سلب هذه الأشياء يعد من قبيل القتل لنفسية الشعب الذي يعاني الاحتلال، وكانت المسارات السلبية أقسى عليه من القتل الذي يعاني منه كل يوم، في الضفة الغربية وغزة، في الداخل والخارج.

رأي اليوم

 

 

12 Apr, 2017 04:03:39 PM
0

لمشاركة الخبر