Skip to main content
أدباء عالميون في «بيت حافل بالمجانين»

9 حوارات مهمة مع أدباء تركوا بصمة لا يزال أثرها ممتداً في عالم الأدب يضمها هذا الكتاب «بيت حافل بالمجانين» الذي ترجمه ترجمة شيقة الشاعر أحمد شافعي، وصدر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.

شملت الحوارات: همنغواي، وهنري ميلر، وبورخيس، وكارلوس فوينتس، وكونديرا، ونجيب محفوظ، وبول أوستر، وسوزان سونتاج، وأمبرتو إكو... ويوضح شافعي في تقديمه الكتاب قصة هذه الحوارات، مشيرا إلى أنها رافقت مجلة «ذي باريس ريفيو» منذ تأسيسها عام 1953؛ حيث حرصت المجلة على أن تركز على الإبداع القصصي والشعري، منحية النقد جانبا. وفي المقابل، فتحت الباب على مصراعيه للكتاب أنفسهم ليتحدثوا عن إبداعهم، في شكل حوارات، يجريها معهم نخبة من المحررين المختصين، بلغة بسيطة سلسة، مهمومة بأن يعبر الكاتب عن هواجسه ورؤاه وأفكاره بحرية تامة، وعن جوانب من شخصيته قد لا تكشف عنها هذه الأعمال، بحسب المترجم، مشيرا إلى أنه «على مدار أكثر من ستين عاما، لم يصدر عدد من المجلة إلا وفيه حوار أو أكثر مع كاتب يستعرض تجربته من شتى أوجهها».

ويكشف المترجم عن طرائق رافقت الآلية التي أجريت بها هذه الحوارات مع الأدباء؛ فمنهم من ضرب فكرة الحوار في مقتل، بإصراره على ألا يجيب عن الأسئلة شفاهة، بل يكتب إجاباته، ويسلمها للمحاور في مظروف مغلق، مثلما فعل الكاتب الروسي ناباكوف، ومنهم من أصر على إجراء حواره عبر البريد، مثل الشاعر الإنجليزي فيليب لاركن، ومنهم من أصر على الإجابة كتابة في حضور المحاور على أن يقوم الاثنان معا فيما بعد بعملية قص ولزق، مثل الروائي التشيكي ميلان كونديرا.

ويذكر المترجم أن صدر المجلة كان رحبا أمام «تماحيك» الكتاب، فكانت ترحب بأن يراجعوا حواراتهم بأنفسهم، وتشجعهم على ذلك.

عن أهمية هذه الحوارات، يترجم شافعي مقالا مهما للروائي التركي أورهان باموق، لافتا إلى أن المقال كان مقدمة كتاب صدر عام 2007 بعنوان «حوارات ذي باريس ريفيو2»، وترجمت هذه المقدمة إلى الإنجليزية، ونشرت أيضا في صحيفة «الغارديان» البريطانية.

يروي باموق في مقالته التي عنونها باسم: «تدفعنا الشياطين» أنه عندما قرأ حوار فوكنر في مجلة «باريس دي ريفيو» للمرة الأولى في إسطنبول عام 1977، انتابه التيه «كما لو كنت عثرت على نص مقدس».

كان باموق في الخامسة والعشرين يجاهد لينتهي من روايته الأولى، بينما تومض أصداء فوكنر عليه حين يقول: «فكتابة المرء لروايته الأولى لا تقتضي فحسب أن يتعلم كيف يحكي حكايته وكأنها حكاية شخص آخر، إنها أمر يتعلق في الوقت نفسه بأن يصبح المرء شخصا يستطيع أن يتخيل رواية من بدايتها إلى منتهاها، بطريقة متزنة».

 

ثم يرفد ذلك إعجابه المبكر بصاحب رائعة «الصخب والعنف»، بمعادلة شيقة يذكرها فوكنر ردا على سؤال لمحاوره: كيف يصبح المرء روائيا جادا؟ يقول فوكنر: «تسعة وتسعون في المائة من الموهبة... تسعة وتسعون في المائة من النظام، وتسعة وتسعون في المائة من العمل»، لافتا إلى أن الكاتب عليه ألا يشعر أبدأ بالرضا عما يفعل؛ «فالعمل لا يصل أبدا إلى الجودة التي يمكن أن يكون عليها».

وفي ما يشبه النصائح، يتابع فوكنر قائلا: «لا تكف عن الحلم، واطمح إلى أعلى مما تحسب أنك قادر على تحقيقه، لا تقصر اهتمامك على أن تبز معاصريك أو أسلافك، حاول أن تتفوق على نفسك، الفنان خالق تدفعه الشياطين، وهو لا يعرف لماذا اختارته الشياطين هو بالذات، وهو دائم الانشغال بالتساؤل عن سر ذلك».

ومن داخل همّ الكتابة يلخص باموق أهمية هذه الحوارات قائلا: «لم أكن صديقا لأي من الكتاب الأتراك في جيلي، وزادتني العزلة قلقا على مستقبلي، وكلما كنت أجلس لقراءة تلك الحوارات، تتبدد الوحدة، كنت أكتشف أن ثمة آخرين يشعرون بمثل ما أشعر به، وأن المسافة ما بين ما كنت أشتهيه وما حققته مسافة طبيعية، وأن نفوري من الحياة اليومية المعتادة ليس علامة على علة تعتريني، بل دليل ذكاء».

ومن الأشياء المهمة في هذه الحوارات اهتمام محرريها بسيكولوجية وطقوس الكتابة لدى محاوريهم من الكتاب، فهمنغواي كان يكتب واقفا، منتعلا حذاءين واسعين، بينما الآلة الكاتبة على ارتفاع صدره في مواجهته، كما كان يضع لكل مشروع جديد ما يشبه الماكيت بالقلم الرصاص.

ويشير محاوره جورج بلتمون، في الحوار المنشور في عدد ربيع 1958 من المجلة، إلى أن همنغواي متكلم بارع، يتمتع بخفة دم، ولديه ثروة مدهشة من المعارف في كثير من الموضوعات، إلا أنه رغم ذلك يصعب عليه التكلم عن الكتابة، ليس لأن أفكاره عنها قليلة، وإنما لأن لديه شعورا قويا بأن تبقى هذه الأفكار دونما إعلان.

وعن أفضل حالات الكاتب، فيرى همنغواي أنها تكمن في أن يكون الكاتب في حالة حب. ويروي أنه حين يعمل على كتاب أو على قصة، يكتب «بمجرد أن يظهر أول ضوء من الصباح. في ذلك الوقت لا يكون هناك من يزعجك، ويكون الجو إما منعشا أو باردا، فتعمل ويدفئك العمل».

ويعترف همنغواي بأنه يعيد الكتابة كل يوم وصولا إلى النقطة التي توقف عندها، وحينما ينتهي العمل يقوم بذلك مرة أخرى بشكل طبيعي. ويذكر همنغواي في هذه السياق أنه كتب الصفحة الأخيرة من روايته الشهيرة «وداعا للسلاح» 39 مرة قبل أن يرضى عنها.

 

على عكس همنغواي يروي هنري ميلر أنه لا يقوم بالتصحيح أو المراجعة أثناء عملية الكتابة؛ ففي حوار أجراه معه جورج ويكس في لندن، ونشر في عدد صيف وخريف 1962 من المجلة، يقول ميلر: «لنفترض أنني كتبت شيئا بأي طريقة كانت، بعدها يبرد، أنا أتركه يستريح فترة، شهرا أو اثنين، أنظر فيه بعين باردة، وأقضي فيه وقتا رائعا. بالضبط أعمل فيه ببلطة، لكن ليس دائما، في بعض الأحيان يأتي بالضبط كما أردت له». وعن كيفية المراجعة، يقول ميلر: «عندما أراجع أستخدم القلم الحبر في التغيير، في الحذف، في الإضافة، وتبدو المخطوطة بديعة بعد ذلك، مثل بلزاك، ثم أعيد الكتابة على الآلة الكاتبة، وفي أثناء ذلك أجري مزيدا من التغييرات. أفضل أن أقوم بنفسي بإعادة الطباعة».

وعن عادات الكتابة لدى خورخي لويس بورخيس، يروي محاوره رونالد كريست في حوار مطول أجراه معه في المكتبة الوطنية الأرجنتينية، ونشر في عدد شتاء وربيع عام 1967 من المجلة، أن بورخيس يصل في عصر كل يوم إلى المكتبة، فيملي رسائله وقصائده على سكرتيرته، التي تقوم بصفِّها، ثم تلاوتها عليه، وقد تنسخ الواحدة منها بعد مراجعات بورخيس لها، وقد تصل إلى مرات كثيرة قبل أن يرضى عنها.

ويروي كريست أنه في بعض الأمسيات كانت السكرتيرة تقرأ له، فلا يفوت فرصة أن يصحح لها نطقها للإنجليزية. وكان بورخيس حين يدخل إلى المكتبة مستندا على عصاه، يتوقف الجميع لوهلة عن الكلام احتراما له، وتعاطفا مع رجل شبه أعمى. ويلفت كريست إلى أن بورخيس لم يكن جادا طوال الوقت، فقد كان يتمتع بروح مرحة، فكان حين يرغب في التفكير، يترك مكتبه، ويتجول حول قاعة المطالعة المستديرة، فيشاغب القراء بإلقاء النكات الصغيرة العملية.

ويؤكد بورخيس أن قصصه تكمن في مواقفها، وليس في شخصياتها، ويبرر ذلك بطريقة مازحة قائلا: «إلا فيما يتعلق بفكرة الشجاعة، ربما لأنني أنا شخصيا لا أتسم بكثير منها». ويكشف نجيب في حوار أجرته معه تشارلوت الشبراوي، ونشر بالمجلة في عدد صيف 1992 عن أن «سعيد مهران» السجين واللص الشهير بطل روايته «اللص والكلاب»، الذي دوخ الشرطة، هو صاحب أول تأثير أدبي عليه.

وحول طبيعة استلهامه شخصيات قصصه، يذكر محفوظ أنه يكتب ما يحدث حوله؛ في البيت، في المدرسة، في الشارع، في العمل، وكذلك الأشياء التي يتحدث فيها أصدقاؤه حين يمضي وقتا معهم، وتترك أثرا فيه. وكما يقول: «قصصي القصيرة تأتي من قلبي مباشرة»، أما الأعمال الأخرى فتحتاج إلى تحضير، لافتا إلى أنه حين كتب «الثلاثية» قام ببحث موسع، ووضع لكل شخصية ملفا خاصا بها، وأنه إذا لم يفعل ذلك لكان تاه، ونسي أشياء كثيرة.

ويذكر محفوظ أن من عادات الكتابة لديه أنه يراجع كثيرا ويحذف كثيرا: «أكتب على الصفحة كلها، بل على الوجهين، غالبا ما تكون مراجعاتي أساسية، وبعد أن أراجع أعيد كتابة القصة، وأرسلها إلى الناشر مباشرة، ثم أمزق كل المسودات وأرميها».

إنها عادات وطقوس لا تنفصل عن طبيعة الكتاب ومزاجهم الشخصي، بل أحيانا تنعكس على رؤاهم وأفكارهم، لكنها في كل الأحوال تعطي لأعمالهم مذاقا خاصا... مثلما منحنا هذا الكتاب الشيق.

23 Apr, 2017 12:34:02 PM
0

لمشاركة الخبر