Skip to main content
نزار قباني رسم بالكلمات الحياة والمرأة والإبداع

لا يزال يتردد في الآفاق صدى شعر نزار قباني (1923 ـ 1998) الذي شغل الناس وملأ الدنيا، فالعصر الحديث لم يعرف شاعراً نال شعبية عريضة وشهرة واسعة مثل ما نال قباني الذي مر على رحيله الشهر الماضي 19 عاماً فهو من غنى للحياة والمرأة والياسمين، فحضوره يحتفظ دائماً بوهج أقوى من غيابه، وهذا ما أكدته الندوة الثقافية التي أقيمت في رحاب مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية على مدار يومين؛ 10 و11 مايو الجاري، احتفاءً بالشاعر السوري تحت عنوان «نزار قباني.. الرسم بالكلمات» نظمتها المؤسسة، وشارك فيها نخبة من الشعراء والأدباء والباحثين، وحضرها الدكتور سليمان الجاسم نائب رئيس مجلس الأمناء لمؤسسة العويس الثقافية، وعبدالحميد أحمد، والدكتور محمد عبدالله المطوع والدكتورة فاطمة الصايغ أعضاء مجلس الأمناء، والدكتور صلاح القاسم مستشار هيئة دبي للثقافة والفنون، وجمهور نوعي من الأدباء والمثقفين والفنانين.

الأنا والإبداع

أدارت الجلسة الأولى الدكتورة فاطمة الصايغ، وقد تحدث فيها المفكر الفلسطيني الدكتور أحمد برقاوي عن «الأنا في شعر نزار القباني» وقال: ما زال نزار قباني عالماً ثراً، ونصاً يسمح بمئة قراءة وقراءة، رغم العديد من الكتب والأبحاث التي قدمت عنه، فالمبدع.. أي مبدع، إما أن يكون أنا متفرداً أو لا يكون، بل إن تاريخ الإبداع لا ينفصل أبداً عن تاريخ ظهور الأنا الذي أقام قطيعة مع النظام المتعالي عليه والمسيطر اجتماعياً وثقافياً، وهذا ما يفسر لنا المواجهة الحادة التي لا تزول بين الأنا المبدع والوعي العام وكراهيته للتجاوز ولن تزول.

قارورة عطر

أما الكاتب علي عبيد الهاملي مدير مركز الأخبار في مؤسسة دبي للإعلام، ونائب رئيس مجلس إدارة ندوة الثقافة والعلوم فقد تحدث عن «قصيدة دارنا الدمشقية».. لا النوافير تتعب ولا ماء دمشق ينتهي مشيراً إلى مكامن الجمال في نصوص نزار الشعرية والنثرية، على حد سواء، بحيث لا يمكن أن ندركها إلا إذا رصدنا مقدار الجمال الذي حوته دمشق والذي عبر عنه في قصيدته دارنا الدمشقية وفيها نتعرف على بيئته الأولى التي نشأ فيها وتذوق طعم الجمال حتى انتشى، ويقول نزار في الفقرة الأولى من النص الأدبي: هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة، إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ، ولكن ثقوا بأنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر.. وإنما أظلم دارنا.

دارنا الدمشقية

وأكد الهاملي أن بصمات «البيت الدمشقي»، الذي سرد تفاصيله نزار نجدها على نصوص كثيرة من شعره ومنها «خمس رسائل إلى أمي»، فقد تشابهت الأجواء في هذه القصيدة ونص «دارنا الدمشقية»، كما تشابهت المفردات ومنها: فنجان القهوة - الجريدة - فل دمشق - النعناع - المآذن – الليلكة - الحارة، وقال إن هذه الأجواء والمفردات التي تكررت فيهما تدل على مدى تأثير البيت الدمشقي في نفس نزار وشعره، وهذا التأثير يعود إليه بإرادته حيناً، ومدفوعاً بالحنين أحياناً، مؤكداً أن الدار الدمشقية كانت نهاية حدود العالم عنده، فقد استحوذت على كل مشاعره وتركت بصماتها على شعره فحملها معه إلى كل مكان ذهب إليه ونهل منها الجمال قبل أن يسكبه في شعره ونثره.

نثر قباني

وفي الجلسة الثانية التي أدارها الشاعر والأديب الإماراتي عادل خزام،، تحدث المفكر السوري الدكتور سمر روحي الفيصل عن «نثر قباني.. الوجه الآخر للإبداع» وقال: إن إبداع نزار قباني يكتمل إذا نظرنا إليه من وجهيه الشعري والنثري، رغم أن الحركة النقدية لم تحتفل بنثره كما احتفلوا بشعره، وذلك لاعتقاد أصحابها أن الصلة بين نثره وشعره لا تخدمهم في تحليلاتهم، وقد يكون النقاد محقين في الاكتفاء بشعره من دون نثره، ولكن نزار استطاع بذكاء أن يجعل نثره يوضح قضايا شعره، مؤكداً أن قضايا شعره منذ البدايات في عام 1944 بديوان «قالت لي السمراء» إلى آخر دواوينه الشعرية «أبجدية الياسمين»، يمكن جمعها في القضايا الثلاث الآتية: الشهرة، والخطاب الشعري، وطبيعة الشعر، لافتاً إلى الاهتمام بدراسة نثره ومقارنته بلغة شعره لتحديد المؤتلف والمختلف بينهما، مشيراً إلى أن مقالاته وحواراته التي جمعها في الأعمال النثرية الكاملة لقيت الإقبال نفسه.

حرية المرأة

عن السعي وراء الحرية شعرياً «حرية المرأة في شعر نزار قباني» قالت الروائية الأردنية الدكتورة عفاف البطاينة: يبدو لي أن التركيز على الأنثى/‏ المرأة لطالما كان أولوية في مراحل التغيير، في معظم المجتمعات، بغض النظر عن طبيعته وعواقبه. فالسعي نحو مزيد من التقدم أو الديمقراطية، الانفتاح أو الانغلاق، الحرية أو القمع، يبدأ بالمرأة وعن المرأة ومن دون المرأة، وتكون المرأة في البدايات مفعولاً به لا فاعلاً، منوباً عنها لا ناطقة بصوتها، بعيدة عن المشهد لا حاضرة، ومن ثم تصبح هي الفاعل والمتكلم، ثم ذهبت إلى نزار قباني من خلال هذا التمهيد لتبحث طبيعة علاقته الوثيقة بالمرأة.

وتحدث الدكتور محمد شاهين أستاذ الأدب الإنجليزي في الجامعة الأردنية، عن «نزار قباني.. لمن يغني الكناري» مؤكداً أن نزار قباني على وعي بما أصبحت تتبوأه اللغة من دور في الحداثة لدرجة أن ثورة القرن العشرين في الحداثة تضع اللغة في الصدارة عند الحديث عما طرأ في التعامل مع سائر دروب المعرفة في علوم الإنسانيات، وكثيراً ما يقال إن ثورة الحداثة في القرن العشرين هي ثورة لغة.

الهالة النزارية

أما اليوم الثاني فقد أدارت الجلسة الأولى الكاتبة الإماراتية فتحية النمر، وتحدث فيها الشاعر والدكتور نزار أبو ناصر عن «ملامح الهالة النزارية» وقال: يتساءل العديد من الناس وخاصة الجيل الجديد، عما هو السر في هذا الإعجاب الكبير بأشعار نزار قباني، وهالته الطاغية على الأذن والعين والإحساس.. ومن وجهة نظري كعاشقٍ للحرف النزاري بعيداً عن حرفية الناقد والقريبة من جمهور قباني، أرى أن هناك عوامل ساهمت في نشوء وتمدد الهالة النزارية نذكر منها: إنه خارج إطار المألوف وخارج نطاق المصرح به، الإيجاز والتكثيف في كلمات بسيطة وواضحة وقليلة يوصلك إلى ما تريد، ارتباط الهالة النزارية بالمرحلة العمرية للفرد العربي بداية من المراهقة إلى فترة الشباب حتى بداية الشيخوخة، إلى جانب التصوير المتحرك، والقصيدة المشهدية وهي القصيدة التي تعتمد على وجهة نظر الشاعر كعامل أساسي لتصوير الحركة كرمز دائم للحياة والإبداع.

لعبة الشعر

وأشار أبو ناصر إلى أن الفهم العميق للعبة الشعر، ووجهة نظره المتطرفة في الحب، من العوامل الجميلة التي ساهمت في تكوين الهالة النزارية إلى حانب الموسيقى فالغنائية الفياضة في شعره التي تظهر جلياً في قصائده المغناة تتميز بالشفافية والرقة والعذوبة وهذا الملمح يحتاج إلى بحث مطول وقائم بذاته.

وقال الدكتور علوي الهاشمي عميد كلية الآداب جامعة البحرين في ورقته «نزار قباني.. المفارقة الصارخة (اعتراف نقدي)» لا يختلف اثنان على أن شعر نزار من «السهل الممتنع» بل هو في عصرنا الراهن يعد المثال النموذجي على هذه الصفة النقدية أو اللعبة السحرية، لذلك يندفع جمهور المتلقين كالسيل الجارف نحو ذلك السهل.

حضور أنثوي

وأدار الجلسة الثانية الفنان الإماراتي الدكتور حبيب غلوم، وتحدث فيها الدكتور شريف الجيار أستاذ النقد والأدب المقارن في كلية الآداب جامعة بني سويف المصرية عن نزار قباني وقال: لقد تصدرت المرأة مسرح خطابه الشعري حتى أصبحت واقعه المتخيل، القصيدة والمدينة والقضية الرامزة لتحرير المجتمع والوطن، والكون الإبداعي الذي أخرج الشعر من مملكة العادة إلى مملكة الدهشة، وأكد الجيار في ورقته تحت عنوان «ديوان سيبقي الحب سيدي» تمرداً جمالياً ورفض الموروث إن الديوان بقصائده الثلاث والثلاثين والذي صدر في عام 1987 يأتي ببنية جمالية مغايرة، ونسق إبداعي ويطرح سؤال الوجود الإنساني ويحتفي بالحياة، مشيراً إلى أن التجربة التقدمية في الديوان قدمها نزار عبر خطاب شعري درامي، وآليات تعبيرية سردية، ونسيج غنائي يحتفي بالمرأة وحبها وحضورها الأنثوي الطاغي في صدارة عالمه الشعري، فهي وطنه وجواز سفره وهويته وقصيدته وطفولته البريئة، إنها ذاته وحضوره وغيابه، وهي الحياة ومصدر الإلهام، لذا فهو ملاصق لها دائماً.

جدل بعد الندوة

وتحدثت الإعلامية الدكتورة بروين حبيب عن «تقنيات التعبير في شعر نزار قباني» من خلال تجارب ذاتية عاشتها بالقرب من الشاعر، معترفة أنها عاشقة لشعره، فقد ذهبت إلى لندن خصيصاً لزيارته مشيرة إلى جلسة جمعت بينهما، ثم راحت تقدم نماذج من فتنته الأدبية معتمدة على تحليل مفردات ونصوص وألوان وروائح وغيرها من الأشياء البسيطة التي تشكل عالم نزار، كما تناولت مفهوم الحداثة من خلال اقتراب نصوص نزار من الشعراء العالميين، وعند هذه النقطة المفصلية التي أثارت حفيظة الحاضرين، طلب عدد من الحضور الإدلاء بدلوهم، حيث فجر الشاعر السوري الزميل حسين درويش رئيس قسم الثقافة والمنوعات في «البيان» قضية استفادة نزار قباني من الشاعر الفرنسي الشهير جاك بريفير، وخاصة قصيدة «مع جريدة» التي كتبها عام 1956 والتي تتطابق في بنيانها الدرامي مع قصيدة بريفير «فطور الصباح»، التي كتب عنها العديد من النقاد مستهجنين إقدام نزار قباني على ذلك من دون أي إشارة للشاعر الفرنسي، وقد انقسم الحاضرون إلى فريقين حول مفهوم السرقة ومفهوم التشابه والاستفادة، وقد استمر الجدل حتى بعد انتهاء الندوة، التي وصفها الحاضرون والجهة المنظمة بالنوعية والناجحة، فقد حركت بحيرة الركود في الشعر العربي.

الوحش الجميل

ووصف الدكتور علوي الهاشمي شعر نزار بأنه «سهل الدخول، صعب الخروج»، فهو ممتنع على شباك صياديه كالوحش الجميل المرغوب فيه، كما يحب أن يوحي لنا نزار في تعريفه للشعر، فما زال يقف مئات الشعراء العرب متأثرين بشعره تأثراً واضحاً منذ بداياتهم الشعرية، عاجزين عن أن يبلغوا شأوه، بل عاجزين حتى عن أن يقلدوه، والأخطر من هذا وذاك أنهم ظلوا عاجزين عن قدرة التخلص من آثاره حتى بعد أن شاخت تجاربهم.

 

مطربو كلمات نزار حضروا عبر كتاب «قصائد مغناة»

على هامش الندوة تم توزيع كتاب «نزار قباني قصائد مغناة»، والذي أصدرته مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، بهذه المناسبة، والكتاب يتكون من 300 صفحة ويتضمن القصائد المغناة من قبل كبار المطربين والملحنين والتي سحرت الأذن ورفعت مستوى الأغنية العربية، ابتداء من محمد عبدالوهاب، والعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ وصولاً إلى كاظم الساهر ومروراً بفيروز ونجاة الصغيرة وماجدة الرومي وغيرهم، وهو ليس اكتشافاً بقدر ما هو واقع موجود.

وقد قام بإعداد وتقديم الكتاب الأديب عبدالإله عبدالقادر المدير التنفيذي لمؤسسة العويس الثقافية، ومن أشهر القصائد المغناة في الكتاب قصيدة «رسالة من تحت الماء»، التي غناها الفنان عبدالحليم حافظ، وقصيدة «كل عام وأنت حبيبتي»، التي غناها كاظم الساهر، وقصيدة «أسألك الرحيلا» وغنتها الفنانة نجاة الصغيرة وقصيدة «كلمات» وغنتها الفنانة ماجدة الرومي.

ولولا غنائية القصيدة النزارية ومستواها العالي في تناول موضوعة الحب بأشكالها المختلفة لما تشجع أشهر المطربين والفنانين في الوطن العربي على أداء هذه القصائد التي أصبحت الأغنيات الأكثر طرباً في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة.

14 May, 2017 09:56:51 AM
0

لمشاركة الخبر