Skip to main content
أزمة الذات في رواية «حتى لا تتيه في الحي» للفرنسي باتريك موديانو

إن الرؤية الإبداعية قادرة على منح الذات حيزاً متفاوتاً داخل العمل الأدبي، أو إثقالها بجدية مطلقة، وقد تجعل منها –أي الذات- النص بأكمله، مما يدفعها لتمثيل محور النص الأدبي بكليته؛ فهي (الإنسان) بما هو كائن محاط بعوالمه الايجابية والسلبية وما يتخللها من انتصارات وانكسارات؛ فالذات هي الفاعلة في الواقع النصي، وتشكل المحور الذي يدور حوله البناء النصي ككل، وأي محاولة بحث في الذات داخل المتن الحكائي ينجم عنها عملية لا تحديد، وعصيان على العرض، وتناقض في الألفاظ والأحداث مما يشكل مفارقات بشتى أنواعها، وخطاب شذري يعانق الروح الانهزامية التي طالما حاول الهرب منها.


وفي رواية (حتى لا تتيه في الحي) للفرنسي (باتريك موديانو) الحائزة على جائزة نوبل للآداب عام 2014م، حالة نبش لذاكرة مثقلة بآلام حاولت الروح الانهزامية نسيانها خلال مدة تجاوزت ربع قرن في حي (تيرن) الباريسي، وهذا النبش لم يكن إرادياً حيث تلقى كاتب يدعى (جان درغان) مكالمة هاتفية من شخص يعلمه أنه عثر على مفكرة عناوينه، وأن من بين الأسماء التي تحويها هذه المفكرة شخصًا اسمه (غاي تورستيل)، وأبدى المتحدث حرصاً شديداً على إعادة المفكرة إلى صاحبها، وفضولاً لمعرفة العلاقة التي تربط (درغان) بالمدعو (تورستيل)؛ لأنه كان هو أيضاً يجدّ في البحث عنه لأسباب مجهولة.   


وبما أن الذات تشكل الوجود الفيزيائي بمكوناته المتناقضة من جهة، والوجود النفسي والمتخيل من جهة أخرى؛ فذلك يعني وجود تناقضٍ في الذات بين الواقع والمتخيل، ومن ثم ينعكس ذلك على العمل الروائي بسرد أحداثه وتوالد شخصياته وتناميها؛ فالذات (التي تعمر الكون أو تهدمه في المستوى الواقعي، هي نفسها التي تعمر عالم النص أو تهدمه في المستوى الإبداعي)، ويكون تعمير النص وهدمه من خلال صراع قد يكون صراع الذات مع الذات، أو للذات مع الآخر، أو للذات مع عالم النص كله، وفي (حتى لا تتيه في الحي) كان الصراع مع عالم النص كله، فبطل الرواية (درغان) دخل في صراع مع ذاته وذاكرته وهويته، وصراع مع شخصيات الرواية التي أثارت في داخله شكوكاً عجز عن تفسيرها، وكذلك الأمكنة والأزمنة المثقلة بذكريات عصية، مما دفع المتلقي لمحاولة فك شيفرة لغز لا يعلم ما هو أصلاً وشاركه في ذلك البطل (درغان)؛ فهو لا يتذكر شيئاً سوى أنه طفل تخلى عنه والداه ولا يعلم عنهما شيء. 


ولأن الجملة الافتتاحية تشكل العتبة الأولى التي ينطلق منها النص، معلنةً عن بنية النص بكامله؛ بوصفها جسراً نصياً يشرع فيه القارئ بالانتقال ذهنياً من عالم الأشياء إلى عالم الكلمات، أو بمعنى آخر من عالم الحقيقة إلى عالم التخيل، فإن جملة الاستهلال للرواية (لا شيء تقريباً) لفتت انتباه عدد من النقاد الذين رأوا أنها تلخص مقاربة (موديانو) للعمل الروائي وإيثاره جمالية أدبية تقوم على كل ما هو دقيق وبسيط ومتلاش وضبابي وغير جليّ، لكني أختلف معهم بإقحام (موديانو) داخل نصه لأنه علينا حين نقارب أي نص ابداعي أن نجعل صاحبه بمعزل عنه ليكون نقدنا علمياً وموضوعياً وأكثر دقة؛ ومن بين أسباب اختلافي معهم أيضاً أنه بعد الانتهاء من قراءة الرواية يمكن لمس أنه لا يوجد شيء مهم يريد أن يتذكره البطل (درغان) من حياته أصلاً؛ فهو فاقد لذاته وتائه في حي كأنه لم يحيا به من قبل، وكل شيء تذكره أحيا بداخله ألماً جاهد مراراً وتكراراً للتخلص منه، وكذلك حين نعاين جملة الإِقفال والاختتام (لم يبق أي أحد آخر سواك)، التي لا تقل أهمية عن جملة الافتتاح، يمكن أن نلمح  رسالة مبطنة فحواها أن الماضي انصرم بكل آلامه، ولن يبق سوى المستقبل الذي سيحدد هذه الذات المشاءة في شوارع باريس المتأملة للشجر والحجر والبشر، والتي ستصنع عالماً جديداً لا يخضع لعثرات الماضي وألغازه، والعودة للماضي بكافة أشكالها هي التي تصنع الألغاز التي لم تكن حينها كذلك.  

26 May, 2017 11:26:05 AM
0

لمشاركة الخبر