Skip to main content
نموذج روائي صادم لأدب المنفى والسجون

لعل أبرز ما تتفرد به رواية «بطنها المأوى»، لدُنى غالي، على الصعيد التقني هو شكلها الدائري الذي أفضى إلى بنية معمارية مغايرة للأنماط السائدة التي تتصاعد فيها الأحداث بشكلٍ خطي مُتتابع، حيث اعتمدت الكاتبة على تقنية استرجاعيّة تبدأ زمنياً من النهاية، ثم تعود إلى نقطة البداية من جديد. كما قسّمت دُنى روايتها إلى متنٍ وهامش، حيث يقوم المتن على ثلاث شخصيات رئيسة، وهي عامر ومريم وتينا، فيما يحتضن الهامش عدداً من الشخصيات المحورية والثانوية، مثل بسيم وسلوى وأبي حارث وعفاف وبشرى وسهام، إضافة إلى عدد من العناصر الأمنية والجلادين الذين يهيمنون على مساحة واسعة من هذه الرواية التي يمكن أن تصنّف ضمن «أدب المنفى» و«أدب السجون» في آنٍ معاً.

تدور أحداث المتن في بلد ثالث، حيث يتقدم عامر بطلب اللجوء، ويتعرّف هناك على امرأتين في آنٍ واحد، وهما مريم القادمة من مدينته البصرة، و«تينا» الأوروبية التي لا تثق بعامر، وتنظر إليه كرجل أجنبي طارئ على ثقافتهم ومنظومة قيمهم الاجتماعية. ولكي نتعرّف على مناخ «المتن» الروائي تحديداً، لا بد لنا من تسليط الضوء على طبيعة الشخصيات الإشكالية الثلاث، وما تنطوي عليه من تناقضات صارخة. فعامر طالب لجوء لم ينتهِ التحقيق معه، توحي معالمه الخارجية بالترف والنعمة لكنه مُصاب بالفزع، ومضطرب نفسياً، ومعرّض للسقوط في الكآبة، خصوصاً بعد أزمات الربو التي تنتابه وتُفقده وعيه لبعض الوقت.

وأكثر من ذلك، فهو يشعر بأنه أعزل وضعيف ومُتابَع لا تبارحه «الفزّة» التي جلبها معه «فالناس هناك في بلاده مُصابة بحالة خفيّة من استنفارٍ مُزمن لا يفهمها مَنْ لم يَعشها» (ص 64). تنصحه الممرضة في واحدة من نوباته أن يجد له معبداً يصلّي فيه، عسى أن يحقق بعض السكينة وتهدأ روحه المُلتاعة، ولعل الممرضة هي الكائن الوحيد الذي وضع إصبعه على الجُرح، حينما خاطبته قائلة: «أنتَ بحاجة إلى رحم، يا صغيري، إلى بطن» (84). وحينما يغوص عميقاً في ذاكرته، لا يجد صورة لأمه أو لأبيه!

أما الشخصية الثانية، فهي مريم التي تعمل في الصليب الأحمر، وتتعامل بمهنية عالية مع جميع طالبي اللجوء، حتى من أبناء جلدتها، لكنها كانت تُغازل «عامراً» كلما التقته وحيداً، وهو يحب لهجتها البصرية لكنه كان يتهرب منها، ويلوذ بـ«تينا» الأوروبية، فالأولى غابة، والثانية بستان، وثمة فرق شاسع بين الاثنين. أثارت مريم كثيراً من الشكوك لدى كثير من أصدقائه، فهي تحمل أسماء وجوازاتٍ ووجوهاً متعددة، حتى اتهمها البعض بأنها متعاونة مع النظام، وتتجسس على طالبي اللجوء.

ثم تقاصص «عامراً» في خاتمة المطاف بشأن مشاركته في الانتفاضة، والشعارات التي رفعها، ثم تتهمه باختلاق قصة اللجوء. ومع ذلك، تُطرَد مريم من وظيفتها بحجة فشلها في العمل الجماعي، وقصورها في التعاون مع فريق العمل. لا تتوارى مريم في الهامش، كما توارت تينا، بل تستمر حتى نهاية النص الروائي، لكننا نلامس مشاعرها المشوّشة حينما تقول: «أنا بلا رجل، بلا طفل، لا مادة، لا عمل، لا رضا الوالدين» (ص 78).

لم تكن تينا أفضل من سابقتها، صحيح أنها تحبه لكنها لا تطمئن إليه، وتتضايق من وجوده قريباً منها، فلا غرابة أن تتعامل معه ببرود، فيلتبس عليه الأمر. هل يكون وفياً لأرضه أم لملاذه الجديد؟ لأمه أم لأبيه؟ لتينا أم لمريم؟

تبدأ أحداث «المتن» في صالة الانتظار في مطار بلد ثالث، وتنتهي فيه، حيث يحتسيان كوبين من الشاي، ويستمعان إلى النداء الأخير الموُجَّه لهما من خطوط الطيران المتجهة إلى الجحيم.

تسقط الأقنعة وتتكشف الالتباسات تباعاً في «الهامش»، فنعرف أن الخال بسيم قد بدّل اسم عامر إلى هاني، حينما أعلن موت العائلة، وأصدر بيان ولادة جديد له كعامل زراعة، ولزوجته كربّة بيت، ولابن أخته عامر الذي سماه هاني. ثم أمضى سنتين متخفياً في مزارع الزبير. أما مريم، فهي التي توارت خلف هذا الاسم، بعد أن شطبت اسم «وفاء» الذي استقرت عليه العائلة التي كانت تريد أن تسميها «جماهير»، الاسم الشائع في حقبة المدّ اليساري.

عامر الذي رأيناه في صالة المطار حُكِم عليه بالإبعاد، وقرّر أن يتجه مع مريم إلى الجحيم، قد حصل أخيراً على أوراق ثبوتية تؤكد قصته، لكن هذا الهامش لن يطلع أحد عليه لأنه لا يخص عامراً لوحده، وإنما يمتد إلى شخصيات أخرى عاشت حقباً مختلفة، تبدأ منذ سقوط العهد الملكي عام 1958، مروراً بالأنظمة العسكرية وهيمنة الحرس القومي، وانتهاءً بحكم البعث، وتفرد صدام بالسلطة، وما سببه من حروب أنهكت الشعب العراقي دون أن تؤثر في الزمرة الحاكمة، أو الحاشية المقرّبة، وما يليهما من فرقٍ حزبية تبسط نفوذها على كل المدن العراقية.

يمكن اعتبار هذه الرواية «بوليفونية» لأن أنساقها السردية تقوم على تعددية الأصوات، فليس عامر ومريم وتينا هم الذين يتقاسمون البطولة فقط، وإنما هناك سلوى وبسيم وأبو حارث وغيرهم يحتلون مساحات موازية لهم، وخصوصاً من تَعرّض للسجن والتعذيب والموت، أو مَنْ طُورِد واختبأ، أو مَنْ هرب خارج الحدود كي ينجو بجلده، ويحقق بعض الأحلام التي كانت تراوده منذ أيام الصبا والشباب. تعرّضت غالبية الشخصيات للقسوة والعنف بنسب متفاوتة، فإذا كان بسيم قد أُشبعَ ضرباً ولَكْماً وركلاً حتى غابت عيناه تحت الأورام والكدمات، فإن سلوى قد أنجبت وفاء على أرضية السجن، وتخلّى عنها زوجها الذي أُخلي سبيله قبْلها، ثم قرّر أن يسافر إلى بغداد ويتوارى عن الأنظار.

ترصد هذه الرواية مشاهد العنف والقسوة التي تعرّضت لها العائلة المالكة في صبيحة 1958، ثم تكرار حمّام الدم نفسه في 8 فبراير (شباط) عام 1963 على يد البعثيين، وقد نجحت الروائية دُنى غالي في توصيفه من خلال القبض على سلوى وزوجها، حينما تصف المحلة التي تعرّضت لمداهمة رجال الأمن كأنها «قُنّ دجاج هاجمته مجموعة ثعالب. لم ترَ الناس أثراً في أزقتها غير ريش منتوف، وبضعة عظام خلال ساعات» (ص133).

تعالج الرواية حقبة ما يسمّى بـ«الجبهة الوطنية»، التي أجهز فيها البعث على الأحزاب اليسارية والإسلامية، وأمعنَ فيها قتلاً وترويعاً وتشريداً. فسِهام، صديقة سلوى التي أحبّت شاباً لكنها تزوجت من رجل دين ينتمي إلى عائلة ثرية، اعتقلوا ابنتها بتهمة الانخراط في حزب الدعوة المحظور، ثم فارقت الحياة، كما أن والدها السيّد قد مات هو الآخر حزناً على ابنته الشابة. لم يسلم الناس العاديون من ظلم البعث وتجبّره، ويكفي أن نشير إلى أبي حارث الذي اُتهم بالخيانة، مع أنه لم ينتمِ إلى حزب سياسي، لكنه كان صديقاً لبسيم وبعض الأصدقاء اليساريين المتنوّرين.

تنتهي الرواية في لقاء الوادع الأخير بين «هاني» الذي استعاد اسمه وخاله بسيم، مُتهماً إياه بأنه كان السبب في كل ما حدث لهم. فحينما خرج «هاني» من التعذيب، تملكتهُ رغبة في أن يفعل شيئًا ما يخفف من غلواء إحساسه بالغُبن الذي شعر به بقوّة، فصوّب فوّهة البندقية إلى خاله لكنه سرعان ما رفعها إلى السماء وأطلق رصاصتين، ثم دوّت الثالثة، فانقطع صوتاهما وساد الصمت بينما كان الفجر على وشك البزوغ.

 

04 Jun, 2017 10:23:03 AM
0

لمشاركة الخبر