Skip to main content
«الخيمة البيضاء» لليانة بدر.. رواية تقول ما لا يقال

سواء أكانت الخيمة بيضاء، أم سوداء، فإن الذي يقيم فيها من الفلسطينيين لن يكون سعيدا بأي معنى. هذا ما يلقي بظلاله السود على رواية الخيمة البيضاء لليانة بدر الصادرة  عن دار نوفل للنشر والتوزيع ببيروت 2016. تقول الرواية على ألسنة الشخوص: نشيد، عاصي، بيسان، خالد، ندى، غسان، غازي، لميس، وآخرين .. الشيء الكثير مما لا يقال عادة. 
فالسيدة(نشيد) التي تناهز الخمسين تعاني، بعد انخراطها المتكرر في انتفاضات الشعب الفلسطيني، من إشكالات كثيرة، بعضها من الزوج الذي يكاد ينصرف عنها انصرافا بلا مبالاة، وبعضها من الابن خالد، الذي يدبر في الخفاء مع ابنة الجيران بيسان ما لا تستطيع التكهُّن بخطره، وتعاني من أجواء الفوضى التي تعم المدينة رام الله، وتعم البلاد كلها بما في ذلك العودة بالمرأة إلى زمن الحرملك، على الرغم من أن الماضي القريب أشعرها بظروف أكثر ثورية حظيت بها المرأة، ولا سيما بعد أن شاركت في  الانتفاضة الأولى، وفي الثانية، مشاركة الرجل سواء بسواء. فما الذي حدث حتى أصبحت الأخبار عن جرائم الشرف، وقتل المرأة لأسباب واهية، وتافهة، أخبارًا يومية لا تكاد تنقطع. تخطط هي وندى وعدد آخر من الناشطات لإنقاذ فتاة (هاجر) من الذبح على يدي ابن عمها الذي رفضت الزواج منه، وآثرت الاقتران بزميل لها تحبه، تعرفت عليه، وتعرف عليها، في مصنع للملابس يعملان فيه: « لا يريد لها ابن عمها أن تتزوج رجلا غيره، حلف ليقتلنها إذا تزوجت من رجل آخر من خارج العائلة « وقد نفذ تهديده، لكن الرصاصة لم تصب منها مقتلا، وإنما مرت عن الكتف محدثة أثرا. فما هي، برأي نشيد، جريمة هذه الفتاة التي تستحق عليها القتل، بإطلاق النار عليها من بندقية كان يجب ألا تستعمل إلا لمواجهة الاحتلال.
أما الأب – والد نشيد- فكان قد أمضى الكثير من سنوات العمر في معسكرات الفدائيين، في العراق ثم في الأردن وسورية ولبنان، ونجا مرارا من القصف الإسرائيلي، ومن الاجتياح السوري في تل الزعتر، وغيره، فقد انكفأ على نفسه في مزرعة قريبة، قليلا ما يفارقها لزيارة أبنائه، فيما يشبه الاحتجاج الصامت، أو غير المعلن، على مظاهر الترف الفاسد  الذي يغرق فيه بعض العائدين من تونس إلى الضفة الغربية، « فقد تلهى رفاق الأمس بمشروعاتهم الشخصية من بناء البيوت، وترتيب أمورهم الخاصة، تاركين كل شيء على عاتق الآخرين « فالحلم بفلسطين المحررة تحول إلى كابوس مرعب يملأ حياة المحبطين إلى آخر العالم.
هو الآخر لا يخفي قلقه على نشيد، ولا يريد لها التورط في الذهاب إلى القدس لإنقاذ الفتاة(هاجر) من الذبح، فالخطر يحدق بها هي إذا حاولت ذلك. وعلى هذا المنوال تتوالى مونولوجات داخلية ينقلها إلينا الراوي العليم نقلا لا يخلو من تصرُّف، ليلقي بالضوء على عالم عاصي عبد المعطي – والد بيسان- الذي عاد فيمن عادوا إلى فلسطين، وفق التسوية المعروفة باتفاق غزة أريحا أولا. فبعد 25 عاما قضاها هو الآخر في النضال المسلح، يظفر بلقب متقاعد، لا يهم، فقد نخره فيروس الملل في مكتب بعمارة لا يمارس فيه سوى الانتظار المقيت، فهو يقضي وقته يراقب شجرة اللوز التي تشرف عليه من نافذة المنزل المجاور لمنزل نشيد، وأحيانا في المشي، وقد يتردد على واحدة من المقاهي يقرأ الجريدة، « غير أنه يصاب بالجنون كلما سمع عن عدد ضحايا القصف من الفلسطينيين والسوريين الذين يموتون تحت الردم «و « يتقطع قلبه وهو يرى القنابل الكيماوية تقتل السوريين المدنيين «. وهذا الرجل (عاصي) يمثل هو الآخر نموذجا للمُحْبطين؛ فأين هي فلسطين التي وعدوهم بها؟ وأين هو سلام الشجعان؟ 
مسرح كبير
التداعيات التي تتكرر في استذكاره للوقائع، وروايته للمجريات، تقول: إن ما توهمه الفلسطينيون شحمًا في اتفاق أوسلو تمخَّض عن أورام سرطانية يستعصي استئصالها على أمهر  الجراحين. فلم تعد رام الله- مثلا - تلك المدينة الجميلة الراقية بعد أن اجتاحتها جحافل الفاسدين، واستولوا على الأراضي بطرق غير شرعية، وبحجج واهية تدعمها القوةُ لا غير. فاقتلعت الأشجار، وجرفت الحدائق، والمتنزهات، ونهضت بدلا منها الأبنية العشوائية ، وامتلأت جيوب بعضهم بالدولارات، وفاضت في أيديهم الشواقل، وازدحمت الطرق بالسيارات ذات الألوان البراقة الأخاذة، والموديلات الجديدة، فضلا عن النفايات التي ضاقت بها الحواري، والأزقة، فأين هم الذين يتصدون للاحتلال، وهو يقضم الأرض، ويبني عليها المستوطنات بسواعد من عمال فلسطينيين للأسف، بينما تورِّدُ الإسمنت لهذه الأبنية غير الشرعية فئة من قياداتهم الفاسدة. « فكر عاصي، البلد هكذا، تفتح ستارة وتغلق أخرى، دون سبب، لا أحد يمكنه أن يتحكم في المسرح الكبير إذا كان من يديرونه سجاني الاحتلال».
والجدار الذي يحيط بالقدس، وبغيرها من البلدات (نعلين مثلا) كالأفاعي الأسطورية، مانعًا  الأطفال من الوصول إلى مدارسهم، محيلا الحياة إلى جحيم لا يطاق. يحمَدُ عاصي عبد المعطي الله لأنه بلغ الستين، بما لهذا من معان سلبية تتراءى في تجاعيد الوجه تارة، وفي بياض الشيب تارة، وفي بعض الصلع طورًا، لأن بلوغه الستين يمنحه امتيازا على من دون ذلك، فهو يسمح له بزيارة القدس وفقا لقانون احتلالي لم يسمع أحد بمثله من قبل. سيزور القدس إذن على الرغم من الحواجز، ويفاجئ زوجته لميس عند أمها المريضة الحاجة (جليلة) وهذا هو أقصى ما يتمناه. 
شخصيات مُحْبَطة
والشخصيات في هذه الرواية تعاني جميعا من الاحتلال، كونه نجح أخيرا في تجديد أشكالة، واحدًا تلو الآخر. فهو احتلال في صورة حواجز، تفتيش، قنابل غاز تبعث الخدر في المارة، دون سبب، أسوار، وآليات تجتاح المنارة وغير المنارة. مستوطنون يندفعون في أي وقت يشاءون داخل الأحياء يطلقون الأعيرة النارية من بنادقهم الأوتوماتيكية فيقتلون هذا ويصيبون ذاك.. ومستشفيات عاجزة عن إنقاذ المصابين.. مثلما جرى لحبيب، الشاب الملاحق الذي تشهى (ساندويش) الفلافل، فدفع ثمن تلك الشهوة دما نازفا متواصلا، وتفجيرا داخليا بالدمدم يمزق الأحشاء. ومظاهرات تتواصل ضد جدار الميز العنصري تتعرض هي الأخرى لهجوم بالآليات، حتى لو كان بين المعتصمين الناشط يوري أفنيري زعيم حركة هعولام هزيه، أو ذلك الموسيقي الذي يأتي من هولندة، وهو في الخامسة والثمانين، ليتضامن مع المعتصمين تضامنه المعروف مع ضحايا الهولوكست.
سلامٌ غير دافئ
حتى على مستوى العلاقات الشخصية بين أفراد هذه الشريحة الاجتماعية لا يوجد سلام دافئ، بل فتور ينتهي إلى قطيعة. نشيد مثلا علاقتها بزوجها ليست على ما يرام. فقد أمضى هو الآخر في العمل الفدائي زهرة عمره، ثم تحول إلى(بزنس مان) خارج الفردوس المستعاد في نظر النخبة العائدة من تونس، الذين يقال لهم إنهم  أفسدوا حياة الصامدين ممن أمسكوا وحدهم طوال ربع قرن بجمر القضية، فيما كان الآخرون يتشمَّسون على شواطئ بيروت، وقرْطاج والمنزه بتونس. يواصل هذا الزوج، وبعض أبنائه، أعمالهم المختلفة في عدد من العواصم في الخليج، وفي غيره، غير مبالين، لا بما عانته نشيد في  الماضي، ولا بما تعانيه  الآن. وهي على طرف آخر تعاني من اعتقال أخيها، وتتحمّل المشاقّ لزيارته، ومن وردة غرامية حمراء تصلها عبر الهاتف المحمول من سجين آخر(غسان) لا تربطها به إلا ذكرى عابرة. وتهديدات تتزايد يوما بعد يوم لا تعرف من أي مصدر تأتي. وهي مع هذا كله، وحيدة حتى نهاية العالم، وجريحة، وعلى الرغم من إخفاقها في إنقاذ نفسها من هذه الوحدة، تسعى لإنقاذ هاجر من جريمة شرف، تُقْترفُ بلا ذرة من حياء، أو شرف.
ترى هل ستتمكن من إنقاذ الفتاة بحيث تكون هذه العملية رمزا لموقف المرأة من أولئك الطغاة الذين يريدون العودة بها إلى عصر الحريم؟ بعد ساعات من الوقوف في الحاجز متعدد المراحل، الذي لا فرق بينه وبين السراط المستقيم يوم الموقف العظيم، إذا ساغ التعبير، فوجئت بابنها خالد – الذي لم تتوقع علمه بتوجُّهها للقدس – يدعوها بصوت عال للعودة، والتراجع، وعدم  الذهاب للقدس، لأن خطرًا حقيقيا كبيرا ينتظرها – على رأي جدّه طبعًا- ولكنها بدلا من أن تعود أدراجها تواصل الاندفاع، قُدُمًا، والسبب - بالطبع - لا ينحصر في الشجاعة، والجرأة، وإنما هو سبب آخر، فعبور  المراحل المتعددة من التفتيش بعد انتظار طويل مرهق، لا يسمح بالرجوع إلى الوراء، فالأذرع المعدنية التي تفتح وتغلق آليًا تمنعها من التراجع، أما الشاب، فقد جرى اعتقاله، وربما وجهت له، وفقا للمعتاد، تهمة طعن مجندة، أو جندي ممن يملؤون الحاجز.
الراوي العليم
وهذه الرواية، مثلما يتضح من حديثنا السابق، تعتمد على الراوي العليم، الراوي الذي يرصد، ويتتبع الشخصيات وهواجسها التي تضطرب بين ماضٍ ولّى، وحاضر مؤلم، ومستقبل غامض، أقل ما يقال فيه أنه مستقبل بلا أمل يلوح في نهاية الأفق. إن اسوأ ما يمر به الإنسان من أحوال هو أن يغرق في اليأس، والقنوط، والإحباط، فحياته مع فقدان الثقة بالأيام القادمة، لا تختلف عن موت بلا قبر، أو حياةٍ منذورة لموت يستعصي على المجئ.
فالراوي العليم، بحركته الدائبة عبر فضاء الرواية، يتنقَّل بنا من شخصية لأخرى. فهو مع نشيد تارة، وتارة مع عاصي، وطورا مع لميس، أو بيسان، أو خالد. وهكذا يقترب بنا من الشخصية حتى ليكاد يصبح جزءا منها، أو قرينا لها كذلك القرين الذي نجده في قصيدة سعدي يوسف (نبي يقاسمني شقتي) أو ذلك الذي يتحدث عنه شوقي بزيع في « مرثية الغبار « فهو يتكلم بالنيابة عن الشخصية، وفي أحيان قليلة يتوارى خَجَلا تاركا لنشيد، أو عاصي، أو بيسان، أو ندى، أو لميس، أو خالد، أو جده، هامشا غير ضيق للمحاورة، والتحدث مع الذات، لا سيما إذا كان الموقف يتطلب استعادة بعض الذكريات، أو النبش في الماضي. وهذا الراوي – كلي العلم- لا يكتفي بتتبع الشخوص، واختلاس النظر في عالمها الداخلي، ليفضي لنا بأسلوب حر مباشر، أو غير مباشر، بما تفكر فيه، أو تتذكره، ولكنه أيضا يرصد بعينين تشبهان عدسات المصورين المكان من حول هاتيك الشخوص. وهو، من حيث أنه راوٍ كلّي العلم– يلمُّ إلمام هذه الشخصيات بماضي الأمكنة، وما طرأ عليها من  تغيير بعد اتفاق أوسلو. بدءا بالأرض التي تقضم تدريجا، ومرورا بالطرق الالتفافية التي تقضي على الكثير من البساتين، وكروم العنب والزيتون. وتحيلها إلى فسيفساء غير بديع من الإسفلت. وانتهاءً بالتغيير العمراني الذي يجتاح البيرة، ورام  الله، وبيت لحم، وأريحا، وحتى القدس، إما على أيدي المستوطنين ووزارة الإسكان الإسرائيلي، أو على أيدي النخبة المتنفذة في السلطة.» تحولت المدينة إلى غابة من الشقق، والدكاكين التي تعج بالبضائع الصينية والتركية، وعشرات الآلاف من السيارات الهونداي والكيا الكوريتين، وملايين الهواتف الذكية، ولا أحد يسأل عن النساء والفتيات الضحايا فيما يعرف بجرائم الشرف العائلي «.  وهذا الضوء الذي يسلطه الراوي، بموضوعية يحسد عليها كثيرا، يشير إلى شيء غير قليل من فساد الأمكنة، بعد أن أصبحت للفلسطينيين دولة (على الورق). 
لائحة اتهام
وهي إضاءة تمثل، من وجهة نظر الشخصيات، لائحة اتهام المستهدفون فيها كثيرون.
تستهدف- أولا - أولئك الذين عادوا إلى الضفة الغربية، والقطاع بعد الاتفاقية المذكورة، لأنهم تخلوا بسرعة عن ماضيهم النضالي، وشرعوا يتسابقون، ويتنافسون، لا على الامتيازات والمناصب فحسب، بل على مَنْ هو أكثر فسادا وإفسادًا من الآخر. وتستهدف- ثانيا- أولئك الذين وجدوا الفرصة سانحة للتخلي عن كل شيء مقابل الاستفادة، فتحولوا بين عشية وضحاها إلى سماسرة، في بورصة الأراضي، والعقارات، والمشروعات الإنشائية العشوائية التي تقضي على الأمكنة الساحرة في فلسطين، لصالح فئة قليلة لا همّ لها سوى الاستثمار غير المشروع، على حساب القيم الوطنية والأخلاق: « فهذا عاصي مثلا يغبط رفيقا له لم يكن يملك شروى نقير، أصبحَ، بعد عودته إلى رام الله، فيمن عادوا، بين عشية وضحاها، يمتلك ثلاث شقق في عمارة واحدة لزوجاتٍ ثلاث على ذمته «. و- ثالثًا - تتهم هذه اللائحة الإسرائيليين، الذين استغلوا الاتفاقية استغلالا بشعا يجعل من السلطة- بصورة ما- احْتلالا بالنيابة، أو بالوكالة، بكلمة أدق.
فما تمارسه السلطة تجاه الشعب الفلسطيني، فيما تراه هذه الشخصيات-  وهي شخصيَّات متخيَّلة – في مدن الضفة وقراها، ومخيماتها، وفي غزة، وسائر القطاع، لا يختلف عن ممارسات الاحتلال، فهي تعتقلُ، وتلاحق، وتقيد الإقامة، وتستولي على الأراضي، دون ضابط من قانون، أوْ وازع من مبدأ، وتتحكَّم بالناس، وتميز بعضهم على بعض درجاتٍ تبعًا لانتماءاتهم الحزبية ، فهذا من حزب الانتصار، إذن يستحق امتيازا، وذاك من حزب آخر، لذا لا يستحق مثل هذا الامتياز، أما إذا كان من فصيلٍ منافس، فعليه، وعلى مستقبله السلام. وقد حولوا سلطتهم بهذه الممارسة إلى احتلال بالنيابة، فكما أن الاحتلال في حاجة ماسّة لعملاء يندسون بين الصفوف، تحتاج السلطة هي الأخرى لعملاء، ولا بد من مكافأتهم بالمزيد من الامتيازات التي تزيد المنتفعين ثراءً، والفقراء فقراً. 
هذا ما تقوله رواية « الخيْمة البيضاء « لليانة بدر، وهو شيءٌ قلَّ من يقوله من الكتاب والأدباء والاعلاميّين، الذين تحولوا إلى جوق من المصفِّقين للأسف. وحتى لو قيل، فإن هذه الرواية لها فضلُ النبش في المسكوت عنه، وإضفاء الصفة الفنية الروائية عليه، مما يجعل منه قولا لا يتطاير في الفضاء كذرات الهباء، وإنما هو قولٌ على درجة عالية من الفنّ تضمن له أن يُقرأ.. ويُقرأ.. ويُقرأ. يقرأ لا من حيث هو وثيقة، وإنما بصفته عملا تخييليا قابلا للتذوُّق، والدراسة، والنقد والاستحسان، وأن يدرج، ويصنَّف، في عداد الروايات الجريئة التي تقولُ ما لا يُــقال.

18 Jun, 2017 10:32:06 AM
0

لمشاركة الخبر