Skip to main content
بون

نظر إلي نظرة عابرة، غير مبالية، باردة حدّ الجمود!

أشعرتني أنَّ ما كان... لم يكنْ 

أطفأ السيجارة التي كانت بيده وهو يقلب أوراقه المبعثرة على مكتبه الصغير، وأنا ما زلت واقفة أنتظر منه إشارة الأذن لي بالاقتراب.

فجأة، أصبحت نظراته تتمايل تارة على سطوع الشمس القادم من النافذة، وتارة أخرى على العصفور في القفص!

تُرى، هل هذا الذي فعله دليل حصولي على بطاقة الائتمان لأتقدم خطوة للأمام؟ هل الآن أستطيع البوح بالسر الذي أخفيته منذ عدنا من الهند؟

أدخلني دوامة التفكير اللانهائية وأشعل الحيرة داخلي، حتى أصبحت لا أعلم ما الذي سأفعله، لذا قررت إعطاء نفسي فرصة الانتظار مرة أخرى علّي أجد حلاً يقطع الشك الذي يرافقني.

الآن، يقف أمام آلة العزف الموسيقية العتيقة التي لا أكاد أذكر منذ متى وهي هنا، ولكن الشيء الوحيد الذي أتذكره هو أنه يحبها كثيرا لأنها تنتمي لسلالة العائلة.

المثير للجدل هو الوقت الذي أضاعه وهو ينظر إليها، يلمسها بين فينة وأخرى، كأنه كان يتحدث معها، ويخبرها بالقصص التي جمعته بها، أو لعله يخبرها بما يفكر.

ليتني كنت وترا من أوتارها لأعلم ما الذي يفكر فيه!

لم يمضِ إلا قليل من الوقت حتى أخذت أقدامه تخطو نحو الكتب المكدسة المغبرة التي وضعتها قبل سنوات بجانب المدفأة الصغيرة، التقط أول كتاب التفت إليه وأصبح يتصفح به ويقلبه دون تسلسل... وما أن أنهى الصفحة الخامسة حتى بدأ يحدق باللوحة التي رسمها ابن أخي آدم ذو العشرين عاما، وكأنه كان يتأمل أوراق الخريف المتطايرة في كل مكان بها أو لعله كان ينظر للعجوز الذي تسنده عصاه وهو في طريقه إلى المنزل وكأنه لم يرَ تلك الرسمة من قبل! ما جعلني أعتقد بأنه منغمس الآن في عالم آخر غير عالمنا الحقيقي، فقررت الابتعاد عنه دون إحداث أي فوضى.

أثناء انسحابي بكل هدوء في كل خطوة أخطوها للخلف، لاحظ وجودي أخيرا ... 

- آه، عفوا عزيزتي، هل أنت هنا منذ وقت طويل؟

- لا، ليس كثيرا. 

تحرك ليجلس على مقعده خلف المكتب، وهو يقول لي تفضلي بالجلوس أرجوك. 

فتقدمت بخطوات مترددة، وأنا أقول له:

- كنت فقط أريد أن أسألك إن كنت بحاجة أي شيء قبل أن أنام؟

- أتعلمين يا كاترينا، قبل قليل كنت أتصفح أوراق عملي الخاص... وقد لاحظت أن أسهم إحدى شركاتي قد انخفضت مؤخرا، ففكرت بكيفية زيادة الأسهم في السنة القادمة وقد خطرت على بالي فكرة إنشاء فرقة موسيقية كبيرة كالتي كانت لدى عائلتي في الماضي.

لم أعلم لمَ لمعة عينيه التي أصابته وهو يتذكر تفاصيل حياته السابقة جعلتني أشعر بالارتياح أكثر! 

أكمل حديثه وهو يقول: 

أتعلمين أن كل تلك الكتب التي وضعت عند تلك الزاوية هي ليست مجرد كتب؟ إنها تاريخي الحقيقي، منذ تعلمت القراءة وأنا أحتفظ بكل كتاب أملكه إلى هذه اللحظة.

لا أعلم لماذا يشعر القارئ حينما يقرأ كتابا بأن كل حرف من حروفه هو خاصته، يتعلق بكل شخصية يقرأ عنها، أنا شخصيا أحزن على الشخصيات التي تفارق الكتاب من نصفه، وكأن الذي فارق الحياة هو أعز أصدقائي. 

أكمل حديثه وكأنه كان ينتظر أي أحد ليحدثه، كأنه لم يتحدث من قبل قط! فقد حدثني عن طفولته حين كان يروق له أن ينغص على أي طفل يراه، وقلما سلم منه أيّ من أقرانه وعن رسوماته التي رسمها والتي حصل على جائزة بسببها في الثانوية، وعن أحاديث جده التي كان يرويها له وهما على أحد جبال التخييم، فما إن أصبحت الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل حتى أنهى حديثه أخيرا بشكر الله على تلك الحياة الحافلة التي حظي بها في الصغر ثم، ما إن قرر أن يذهب إلى النوم حتى تذكر ذلك العصفور المسكين في القفص فقام ليضع له بعضا من الطعام والماء وهو يقول لي كأنه يصرفني: تصبحين على خير يا كاترينا. 

خرجت من تلك الغرفة دون أن ألتفت إليه، فخيبات ظني قد كثرت بعدما أنهيت حديثي معه! آه كم كنت ساذجة التفكير! أو ربما عميقة في التفسير. كم أهدرت من الوقت بالتفكير في ما ليس لي به شأن، وإن كل ما كنت أفكر به هو وَهْم صنعه خيالي حتى يرضي به نفسي. 

فقد أدركت أنه لم يكن يلقي بالا لسري الذي أخفيته كل تلك المدة خوفا من حدوث السوء بيننا حينما يعلم أنني قلقة بشأن علاقتي معه -كما كنت أعتقد أنه أيضا قلق عليها- ولكن كل ما يقلقه الآن هو أن إحدى الشركات التي يساهم بها ستعلن إفلاسها لا أكثر! 

 

شادن الحياري 

* أديبة شابة من الأردن

26 Jun, 2017 12:28:12 AM
0

لمشاركة الخبر