Skip to main content
الفساد فى دول الإقتصادات الناشئة

يواكب النمو الإقتصادي للدول استثمارات كبيرة في مشاريع الأشغال العامة الضخمة، ومشاريع البنى التحتية الكبرى، مثل مشروع الطريق السريع فى ألمانيا أو القطارات السريعة في اليابان، أو سد هوفر في الولايات المتحدة، وثعد هذه المشاريع ساحة عرض تبرز فيها الدولة مدى اتقانها للتكنولوجيا وإظهار نفسها كقوة عالمية.

على مدى السنوات العشر الماضية قامت الإقتصادات الناشئة في ” دول البريكس ” – روسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا  والبرازيل – بإنشاء المئات من المشاريع، مثل الحدائق الصناعية والطرق السريعة والجسور وخطوط الأنابيب والسدود، والمرافق الرياضية.

وركزت حكومات هذه البلاد على المظاهر والنتائج السريعة وأولت اهتماماً أقل بالجودة والتقليل من التكاليف المترتبة على ذلك. مما أتاح المجال لعمليات الشراء المبهمة وتفشي ظاهرة الفساد وتدني مستوى المعايير.

النتائج لم تشوه فقط سمعة هذه القوى الاقتصادية الجديدة بل حصدت أرواح كثير من المواطنين. وأدت هذه النتائج إلى التشكيك فى مؤسسة بنك التنمية الجديد الذى مولته الصين بمبلغ 50 مليار كبديل للبنك الدولي ومصارف التنمية الإقليمية، والذى يهدف إلى سرعة وصول الأموال وتوفيرها من أجل البنية التحتية. ولكن من المرجح، نظراً لفشل هذه الدول في إجراء  مساءلة حول عمليات الإشراف وتنفيذ مشاريع البنية التحتية المحلية، فمن المتوقع أن بنك التنمية الجديد سوف يكرر نفس الأخطاء المكلفة.

الطرق المتخذة

محلل “غولدمان ساكس” جيم اونيل كان قد أكد في عام 2001 في أحد مقالاته أن البرازيل، وروسيا، والهند، والصين من المرجح أن تحقق نموا إقتصاديا سريعا خلال السنوات العشر المقبلة (جنوب أفريقيا انضمت في عام 2010).

ولكن اليوم طرأت ظاهرة أخرى تشترك فيها هذه الدول، حيث يوجد في كل بلد منها عدد من فضائح الفساد لشركات البنية التحتية الممولة من قبل الحكومات وفي المشاريع التي تشرف عليها.

في البرازيل هناك فضيحة فساد ضخمة على شركة النفط “بتروبراس” شبه الحكومية وتعتبر من كبريات شركات البناء في البلاد والتي تسببت في حالة من الفوضى السياسية والاقتصادية.

أكبر الشركات  في البرازيل هي : ” أودبريشت OAS” ، “كامارغو كوريا ” و ” أندرادي غوتييريز” – تواطأت في وضع خطة مفصلة مقابل رشوة للحصول على عقود المشتريات والإنشاءات لشركة “بتروبراس” تصل قيمتها إلى 3 مليارات دولار.

ونجحت هذه الشركات فى هذه العملية بسبب ابتعاد عمليات تقديم العطاءات للمشاريع عن أنظار الرأي العام. ولأن هذه الشركات الأربع – بمقدورها تقديم عطاءات للعديد من المشاريع، وجدت عائدات مكاسبهم غير المشروعة طريقها إلى جيوب ما لا يقل عن 200 من السياسيين  عبر 18 حزبا، بما في ذلك 1.5 مليون دولار لصالح تمويل الحملة السياسية لميشال تامر، الرئيس السابق والرئيس المؤقت حالياً، والذي حل محل ديلما روسيف التى تخضع لجلسات مساءلة.

الفساد لا يقتصر على “بتروبراس ” فقط بل إن عطاءات بناء أكبر سد في البرازيل، والمثير للجدل سد  ” بيلو مونتي”، قد ذهب منها 41 مليون دولار لحملة التبرعات غير المشروعة لثلاث من الأربع شركات الكبيرة المذكورة أعلاه: “اندرادي غوتيريز” ، “أودبريشت”، و”كامارغو كوريه”.

وبما إن البلاد تستعد لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 2016، فقد وُضعت سلامة البنية التحتية في البرازيل تحت المجهر. خلال نهائيات كأس العالم 2014 لكرة القدم، انهار جسر علوي مما أسفر عن مقتل شخصين وإصابة 22، وفي ابريل من هذا العام، إنهار جسر للدراجات بطول  2.5  ميل أسفر عن مقتل اثنين.

في روسيا، تمتع أصدقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالحصول على عقود البناء بمبالغ في كثير من الأحيان تفوق التكلفة الحقيقية. كانت دورة الالعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي عام 2014 بمثابة هدية  لأركادي روتنبرغ، شريك بوتين فى الجودو والذي حصل على أكثر من 7 مليارات دولار في عقود البناء للمشاريع الأولمبية.

منح بوتين أصدقاء آخرين صفقات بقيمة 15 مليار دولار. وكان عدد من هؤلاء الذين فازوا  بهذه العقود يملكون خبرة قليلة في البناء. كما حصل مدرب التزلج والرئيس السابق ديمتري ميدفيديف على  2.5 مليار دولار لخدماته ، على الرغم من عدم وضوح الطريقة التى حصل بها على مثل هذا المبلغ الكبير.

وكانت أكثر حالات الفساد شهرة خلال الفترة التي سبقت دورة الألعاب الأولمبية، عندما فقدت الدولة ما لا يقل عن 245 مليون دولار وذلك بفضل المخالفات وتجاوز التكاليف غير المبررة في بناء مضمار للتزلج. وقدر أحد زعماء المعارضة أن 30 مليار دولار قد اختفت نتيجة الفساد المتعلقة باستضافة الألعاب.

من الجدير بالذكر أن عمليات الفساد تحدث هناك كل يوم، فوفقا لتقرير صدر مؤخراً عن شركة الاستشارات جرانت ثورنتون، فإن تكلفة الغش في صناعة البناء والتشييد في روسيا تصل إلى 1.5 تريليون دولار بحلول عام 2025.

في الهند، و في أحدث حلقة من سلسلة مشاريع البناء التي ضلت طريقها، إنهار جسر رديء في منطقة كلكتا ، مما أسفر عن مقتل أكثر من 20 شخصا.

ووفقا لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي،فإن قطاعي البنية التحتية والبناء في البلاد “أكثر المتضررين من الفساد من الصناعات الأخرى”.

 فضائح الفساد كلفت خطط الاستثمار في البنية التحتية  10 ملبار دولار  لمدة عشر سنوات المخطط لها في الهند. في مارس، اتهمت المعارضة وزير الاتحاد نيتين قدكارى عندما تم الكشف عن أنه قد خصص العقد لبناء نفق  بين جامو وكشمير لمقدم العرض الوحيد للمشروع – مطوري البنية التحتية للاتحاد الدولي للرجبي المحدودة، وهي شركة لها علاقات مع ابنه.

علقت العقد في وقت لاحق. وكان الطريق السريع الذى يقدر قيمته بمبلغ 13 مليار دولار لربط أربع مدن هندية موضع فضيحة فساد بعد أن  أثار المهندس سانندرا دوبي الشكوك بشأن الفساد. قُتل دوبي في وقت لاحق في ظروف غامضة من قبل سائق عربة.

طفرة البناء الكبيرة ، والتي فى نواح كثيرة كانت ترمز لعودة الصين للمسرح العالمي جاءت  نتيجة للتحالف الوثيق بين الدولة وشبكة صغيرة من شركات البناء، الغامضة وغير المسجلة. الحكومة تختار أحيانا لتسليط الضوء على المخالفات. على سبيل المثال، أظهر تقرير أعده جهاز مكافحة الفساد في الحزب الشيوعي أن المسؤولين في أكبر مشروع سد لتوليد الطاقة الكهرومائية في العالم، كان فاسدا بسبب المحسوبية والصفقات العقارية المشبوهة، وإجراءات المناقصات الباطلة. ومثل هذه الحالات إضافة للرقابة المفروضة على وسائل الإعلام والقيود الصارمة على مناقشتها يصعب الحصول على الحقائق.

وقد صرحت تشو يجيا، وهي أستاذة في أكاديمية حكم القانون الصينية في بكين، فيما يخص قضية بناء الجسور بأن التلاعب في العطاءات أصبح أساس التعاملات، وأنه لا توجد شيكات أو أرصدة في عملية الشراء،

ومنذ عام 2011 انهارت ثمانية جسور في جميع أنحاء الصين بسبب البناء الخاطئ وإستخدام مواد دون المستوى، بما في ذلك أحد الجسور في شمال شرق مدينة هاربين التي أودت بحياة ثلاثة أشخاص في عام 2012. بعد انهيار جسر هاربين، ادعت سلطات الدولة  أنهم لا يستطيعون العثور على المتعاقد المسؤول عن المشروع.

وفي واحدة من أسوأ الحالات، عندما ضرب الزلزال محافظة سيتشوان في عام 2008، تم سحق 700 طفل عندما انهارت مدرسة في هانوانغ. كما توفي  1300 من الأطفال والمعلمين في ظروف مماثلة في مدرسة بيتشوان الاعدادية .

ضربت فضائح مماثلة جنوب أفريقيا. ودارت معركة دستورية هناك بسبب تحديث منزل الرئيس جاكوب زوما بتكلفة بلغت 23 مليون دولار، وتم إضافة مدرج ومسرح وسينما للمتزل. وكانت الشركة المسؤولة عن تنفيذ المشروع لها صلات وثيقة مع الحكومة وكانت قد فازت مؤخرا بسلسلة من العقود العامة، بما في ذلك مشروع بناء 20 وحدة سكنية للشرطة.

وعلى الرغم من عدم اتهام الشركة بارتكاب مخالفات، الا أن زوما ضغط بنشاط لمنع الشركات الأخرى من المنافسة في كلا المشروعين.

أصبحت المسألة قضية سياسية بعد أن رفض الرئيس احترام قرار المدعي العام والذي ألزمه بتسديد المبالغ للدولة والتى دفعت في سبيل بذخه وترقية سكنه، وقضت المحكمة الدستورية أنها تشكل انتهاكا للمسؤوليات الدستورية  للرئيس زوما.

في أماكن أخرى من جنوب أفريقيا، أوقفت المحكمة العليا في “كوا زولو”  مشروع قناة منحتها  بلدية (ديربان) على أساس حصول  ” تجاوز غير قانوني من قبل المسؤولين” ، وبعد استضافة البلاد لبطولة كأس العالم 2010 لكرة القدم، حققت لجنة المنافسة في جنوب أفريقيا فى 65 محاولة تزوير بلغ مجموعها أكثر من 1.8 مليار دولار.

المشكلة العالمية الأولى

علاقات المحسوبية بين شركات المقاولات والحكومات ليست فريدة من نوعها في بلدان الإقتصادات الناشئة.

في أعقاب حروب أفغانستان والعراق وفي وقت مبكر من عام 2000 أهدرت حكومة الولايات المتحدة بين 31 مليار دولار و60 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب، وفقا للجنة مكلفة من الكونجرس للتحقيق في مقاولات تمت زمن الحرب، واكتشفت عمليات تبذير واحتيال وسوء تصرف في مشاريع عديدة منها: مركز للشرطة في العراق، والطرق السريعة في أفغانستان، وكثير منها سيئة البناء وتعاني من زيادة الكلفة.

 العديد من المتعاقدين الذين استفادوا من تدفق المال العام، مثل شركة هاليبرتون للخدمات النفطية، تربطها علاقات وثيقة بالمسؤولين الحكوميين. هذه الأمثلة، تبين أن الدول المتقدمة ليست محصنة ضد الفساد. عندما تُسخر مبالغ طائلة من المال لتحقيق كثير من الأهداف الطموحة، وربما غير الواقعية، ويرافقها ضعف في آليات الرقابة فإن حصول الاحتيال حتمي.

في دول الإقتصادات الناشئة، فان الريع من جانب الموظفين العموميين والاحتكار للحصول على عقود ليس أمراً جديداً. ولكن على مدى السنوات الـ 20 الماضية، حقن الاقتصاد العالمي المزدهر مليارات الدولارات في استثمارات البناء العامة دون عمليات شفافة ومنظمة تنظيما جيدا. الدروس المستفادة من سلسلة مشاريع البنية التحتية الضخمة الفاشلة واضحة وبسيطة. عوامل الغطرسة والتبذير والشعور الزائف بتحديد المصير من دون وضع هياكل تنظيمية مناسبة ونظام أكثر تنافسية لتقديم العطاءات سوف تأتي بنتائج عكسية.

في البلدان الأكثر ديمقراطية، مثل البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، أدت هذه الإكتشفات الى إهتزاز الحكومات وإشعال حركات جماهيرية لمكافحة الفساد. واتخذت الحكومة الصينية بعض الإجراءات الانتقائية لمطاردة الفاسدين لاظهار انها تأخذ المشكلة على محمل الجد، وألقى بوتين باللوم على الولايات المتحدة للكشف عن فساده.

إذا تعلمت الدول الناشئة من أخطائها فإن بنك التنمية الجديد سوف يضع معايير شفافة لتنظيم وتقييم المشاريع والإشراف على تنفيذها. اعتمد البنك الدولي ومؤسسات التنمية الإقليمية مثل بنك التنمية للبلدان الأمريكية ومصرف التنمية الآسيوي إجراءات مماثلة بعد سنوات من التجربة والخطأ، وبعض الكوارث المأساوية. ومع ذلك كانت هذه الإصلاحات التي أدت إلى التأخيرات البيروقراطية والتي اشتكت منها الدول الناشئة قد أسفرت عن إنشاء بنك جديد للتنمية. قد لا يكون من المناسب مطالبة هذا البنك بسرعة الاستجابة لمتطلبات الشفافية والضوابط والتوازنات المناسبة.

في ابريل من هذا العام، أصدر بنك التنمية الجديد أول قروضه: 300 مليون دولار إلى البرازيل، 250 مليون دولار للهند، 180 مليون دولار إلى جنوب أفريقيا و81 مليون دولار إلى الصين، كل هذه القروض خصصت للمشاريع المتعلقة بالطاقة المتجددة. في حالة استمرار تلك المشاريع بسلاسة، سوف يكون البنك قد ابتعد عن ممارسات المحسنين له. إذا لم يفعلوا ذلك، فإن بنك التنمية الجديد  سوف يجد نفسه مقيد بفعل الاضطراب السياسي وعدم الكفاءة الاقتصادية التي تصيب مؤسسيه.

08 Jul, 2017 12:37:11 PM
0

لمشاركة الخبر