كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم، وقيمته الأدبية
كتاب "طوق الحمامة" من ذخائر التراث العربي، وقد ألّفه ابن حزم الأندلسي وهو في عنفوان الشباب، حيث لم يكن قد جاوز الثامنة والعشرين من عمره.
تاريخ الكتاب:
كان الكتاب في حكم الكتب المفقودة في القرون المتأخرة، فلم يذكره صاحب "كشف الظنون"، ولا البغدادي في تذييله عليه، حتى اكتشفه عام 1841م المستشرق الهولندي رينهارت دوزي، حيث عثر على نسخته الوحيدة في مكتبة جامعة ليدن بهولندا، فعكف على دراستها وأفاد منها في كتابه "تاريخ مسلمي الأندلس" الذي نشره عام 1861.
وقد ذاعت شهرة "طوق الحمامة" فلقي إقبالًا كبيرًا، لا سيما لدى الأوروبيين الذين تلقوه بالنقد والتحليل، وتُرجم إلى لغات مختلفة (كالإنجليزية والروسية والألمانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية...) فلقي هذا الكتاب اهتمام الباحثين والدارسين نظرًا لموضوعه الإنساني الذي يمسّ خبايا النفس في الحب والعاطفة، ونزعات النفس وميولاتها العاطفية.
وكان من أكثر المهتمين به: المستشرقون الإسبان، فكانت لهم في خدمته إسهامات جليلة، ومن تلك الأعمال: الترجمة الإسبانية لـ"طوق الحمامة" التي أنجزها غرسيه غومث، وقدم لها الفيلسوف الإسباني الشهير أورتيجا إي جاسيت، وصدرت الطبعة الأولى منها عام 1952م، وقد تتبع غرسيه غومث في مقدمته أثر "طوق الحمامة" في كتب العشق والعشاق العربية، وأثبت فيها أن ابن الجوزي لم يسمع بالكتاب، وأن ابن القيم استفاد منه معظم مواده من غير أن يسميه، وأن ابن أبي حجلة نقل منه نقولات جمة في (باب: علامات الحب)، وأن صاحب المقري "نفح الطيب" رجع إليه في نسخة تخالف النسخة التي بين أيدينا.
وللمزيد حول ذلك تُراجَع دراسة د. الطاهر أحمد مكي، في مقدمته لكتاب "طوق الحمامة" والتي جاءت في (375) صفحة! وطبعت مستقلة عن "طوق الحمامة".
موضوع الكتاب:
"طوق الحمامة" الذي جمع بين الإبداع النثري والشعري في موضوع الأُلفة والأُلّاف، بل هو أهم كتبه على الإطلاق في هذا الميدان. إضافة إلى ما يحتويه من جدة في الموضوع، ومن تحليلات نفسية أخلاقية عميقة لم يُسبق إليها، ومن منهجية مبتكرة في العرض والتحليل.
واعترفَ ابن حزم في بعض صفحاته بتولّعه بجارية من جواري القصر، كانت تجيد الغناء والعزف على العود، وذكَر طرفاً من أخباره معها، وقصّ علينا خبر غنائها لأبيات العباس بن الأحنف التي أولها:
إني طربتُ إلى شمسٍ إذا غربتْ * كانتْ مغاربها جوفَ المقاصيرِ
قال: (فلعمري لكأنّ المضراب إنما يقع على قلبي، وما نسيتُ ذلك اليوم ولا أنساه إلى يوم مفارقتي الدنيا).
لقد ربط ابن حزم الأندلسي في كتابه "طوق الحمامة" عاطفة المحبة التي تربط الرجل بالمرأة، بالأخلاق؛ بل إنه ربط بالأخلاق كل ما يصدر عن الإنسان من مشاعر وأفعال وأفكار… فالصدق والعفة والوفاء قمة القمم في السلوك البشري.
وقد لقي عنتًا كبيرا من أهل زمانه الذين لا موه على أشعاره العاطفية، وهو الفقيه المتدين، واستنكر بعضهم منه تأليف "طوق الحمامة" في الحب.
فما كان منه إلا أن يرد عليهم، مجادلًا، ومدحضًا أقوالهم بالحجة من الكتاب والسنة، ومن سيرة الخلفاء الراشدين… ويبين لهم أن القلوب بيد الله تعالى وما يلزم الإنسان سوى معرفة الصواب من الخطأ في ذلك، فالمحبة فطرة وخلقة، وإنما يملك الإنسان جوارحه المكتسبة. وبخاصة أنه وهب من رقة المشاعر وحب الألفة شيئا كثيرا.
إذن فهو يرى بأن قمع هذه العواطف أو إخفاءها يٌعد نوعًا من الكذب والرياء، كما أنه لا يود أن ينسك نسكًا أعجميًا، أو يسلك مسلكًا ازدواجيًا وهو الغالب على المجتمع الأندلسي، حيث التدين والتقوى في الجانب الشكلي والانحلال والشذوذ في الجانب السري من حياتهم. وكثيرًا ما أورد أخبارًا وقصصًا كثير عن هؤلاء المتدينين في "طوق الحمامة" انتهت بالفضائح والمآسي.
شعر ابن حزم في "طوق الحمامة":
تتسم أشعار ابن حزم في كتابه "طوق الحمامة" بالنزعة العذرية، التي لا مجال فيها للعبث بصورة المرأة أو قيمة العفة؛ ولذلك نجده يفرق بين الحب الحقيقي، وبين مجرد الاستحسان الجسدي.
وانطلاقًا من مفهومه لعاطفة المحبة، فإنه لا يجد حرجًا في التعبير عن عواطفه الصادقة ومشاعره تجاه المرأة التي أحبها. ولعل من أروع شعره في هذا المجال، قوله:
وددتُ بأن القلب شُقَّ بمُدْيــــــــةٍ * وأُدْخِلْتِ فيه ثم أطبق في صــدري
فأصبحتِ فيه لا تحلّين غـيــــــرهُ * إلى ملتقًى يوم القيامة والحشــــــرِ
تعيشينَ فيه ما حييتُ فإنْ أمُــــتْ * سكنتِ شغاف القلب في أحكم التبرِ
فهذا الفيض من المشاعر الصافية، وهذا التدفق العاطفي، نادرا ما صدر عن الشعراء العرب، في أشعارهم الغزلية. وعلى غرار الأبيات السابقة، ما قاله عندما نعي إليه من كان يجب، فقام فارا بنفسه، نحو المقابر، حيث أنشد هذه الأبيات متحسرا، متلهفا على المحبوبة الفقيدة:
وددت بأن ظهر الأرض بطـــــــنٌ * وأن البطن صار منها ظهـــــــرا
وأني مت قبل ورود خطـــــــــبٍ * أتى فأثار في الأكباد جمـــــــرا
وأن دمي لمن قد بان غســــــــــلٌ * وأن ضلوع صدري كنّ قبـــــــرا
من هذا القبيل أيضًا تلك الأبيات التي نظمها وقد أتاه طيف "نعم" -وهي زوجته الأولى- تلك الفتاة التي أحبها في شبابه وحزن على موتها حزنا شديدا، حيث قال:
أتى طيف نعم مضجعي بعد هــدأة * ولليل سلطان وظل ممــــــــــــــدد
وعهدي بها تحت التراب مقيمـــة * وجاءت كما قد كنت من قبل أعهد
فعدنا كما كنا وعاد زماننـــــــــــا * كما قد عهدناه قبل والعود أحمــــد
وانطلاقًا من هذا الفهم الراقي عند ابن حزم لعاطفة المحبة، فإن صورة المرأة ترد في أشعاره مشرقة ومشرفة، في كثير من قصائده ومقطوعاته التي يتضمنها كتاب "طوق الحمامة".
نثر ابن حزم في "طوق الحمامة":
ومن الواضح لمن يقرأ "طوق الحمامة" أن نثر ابن حزم فيه يقف موقف المفارقة من شعره، فهو أكثر شاعرية، وأحفل بالحيوية، وأقل حظاً من المحاكمات الذهنية.
ولا يتعدى هذا النثر ثلاثة طرائق، تجيء أحياناً مجتمعة في الفصول الطويلة، فينتقل القارئ فيما بينها نقلات مريحة، وتلك الطرائق هي: التقرير، والخبر أو الحكاية، والوصف الفني. ويجمع بينها التكثيف المتعمد استجلاباً للقوة في طيعة الأسلوب وطلباً للتأثير، وإن كانت الحكاية غالباً حظاً من ذلك، ويليها في الإكثار منه التقرير ثم ينفرد الوصف الفني بالمبالغة في التكثيف.
إلا أن بعض الدارسين يرى أن شاعرية ابن حزم ونثره الذي ضمنه كتابه هذا أتى بالدرجة الثانية وسطاً بين شعراء الأندلس من درجة ابن شهيد وابن دراج في النثر، فما ظهر في طوق الحمامة كان عادياً، قال أحمد أمين عنه: «وأما نثره فقيمته في صراحة معناه وغزارته، لا في ناحيته الفنية».