Skip to main content
«نسكافيه مع الشريف الرضي»... هاجس العودة إلى الجذور

صدرت عن دار «المتوسط» في بغداد رواية «نسكافيه مع الشريف الرضي» للكاتبة والمترجمة العراقية ميادة خليل. وهي رواية متدفقة لا تحفل بالتزويق اللفظي أو الكلام المقعّر.
وتعالج الرواية ثيمات متعددة أبرزها الهجرة، والاندماج، والغربة، والحب، والحرب، والموت، والانتحار، والعودة إلى الجذور، كما اعتمدت الروائية على التقنية البوليفونية ذات الأصوات المتعددة، والمنحى الاستذكاري، وأسلوب الرسائل، وبعض الأبيات الشعرية المقتبسة حصراً من الشريف الرضي، أغزر الشعراء الهاشميين وأكثرهم جودة. وقد شكّلت مقتبساته الشعرية الستة خلفية فنية للنص الروائي الذي تلاقحت أفكاره، قصداً أو مصادفةً، مع غالبية الثيمات المشار إليها سلفاً.


لا يعتمد النسق السردي للرواية على خط زمني مستقيم، بل إن الشخصيات الرئيسية بمجملها تسرد الوقائع والأحداث عبر الارتجاعات الذهنية وخصوصاً آمنة، وديفيد، وعبّاس الذين يشكّلون العصب النابض للرواية، ويمدّونها بعنصر التصعيد الدرامي الذي يبلغ ذروته قبل أن نصل إلى الحلّ النهائي الذي تقترحه كاتبة الرواية.
ترتكز هذه الرواية على إشكاليات متعددة أولها انتحار ديفيد، وثانيها موت العلاقة العاطفية بين آمنة وعبّاس رغم أن شرارتها قد اندلعت، لكن آمنة سرعان ما أخمدتها لتقتل قصة حب قد تخفِّف، في أبسط الأحوال، أحاسيس الغربة ومشاعر الاغتراب لدى الطرفين، أما الإشكالية الثالثة فهي عودة آمنة النهائية إلى العراق وكأنها تردد ذات الفكرة التي وردت في بيت للشريف الرضي يقول فيه: «ولو قالَ لي الغادونَ: ما أنتَ مشتهٍ / غداة جزعنا الرمل، قلتُ: أعودُ».
وبغية توضيح هذه الإشكاليات الثلاث التي تختصر الأحداث الروائية المكثّفة أصلاً لا بد أن نتوقف قليلاً عند نقطة التحول التي حدثت في المقطع الخامس من الرواية، حيث تتوقف آمنة، بعد أن نبهتها سميرة المغربية، عند أغراض ديفيد المُلقاة أمام البناية، وما لفت نظرها تحديداً هو وجود لوحة كبيرة، وصندوق خشبي فيه مجموعة كتب بينها ديوان الشريف الرضي. تُرى، ما الذي يهمها في حياة رجل غريب لم تعرفه من قبل وهي الأرملة المغتربة التي مات زوجها متأثراً بمرض السرطان؟


تستعمل الروائية ميادة خليل تقنية البنية الموازية التي تتيح للشخصيتين الرئيسيتين وبعض الشخصيات المؤازرة الأخرى أن تبوح بكل شيء تقريباً فيتعرّف القارئ من خلال استذكارات ديفيد على جدّه الذي كان ضابطاً في البحرية، ويمتلك مكتبة كبيرة، وجدته التي كان يحبها ويفضل العيش معها تحت سقف واحد وهي التي تذكِّرة دائماً بأن «المكتبة لك ديفيد... إنها أعزّ ما كان يملك جدّك» (ص28). وفيها كتب أدبية وتاريخية وفلسفية قرأ معظمها فلا غرابة أن يكون نموذجاً للشخصية المثقفة العابرة للقوميات والأديان والحدود ويقترن بسلمى الفتاة العراقية التي درست الأدب الإنجليزي في جامعة لندن، وكانت تحب الرسم، وتحاول أن تقيم بعض المعارض الشخصية لها، واللوحة التي عثرت عليها آمنة قرب «مكبّ» النفايات هي لوحة سلمى التي تنطوي على محمولات عراقية صرف مثل القِباب الكثيرة، وتعويذة الـ«سبع عيون» التي تدرأ الحسد، وما إلى ذلك من ألوان شرقية حارّة. لقد أحبّ ديفيد سلمى وأخلص لها مع أنه كان زير نساء قبل يتعرّف عليها لكنه أحبّها بصدق مذ صافحها، ونظر إلى وجهها، وظل مصعوقاً بهذا الحب حتى لحظة انتحاره لأنه، ببساطة شديدة، لا يستطيع العيش من دونها. لعلّ سائلاً عن سرّ انجذاب ديفيد إلى سلمى وتعلّقه بها إلى درجة الوله الصوفي فيأتي الجواب واضحاً لا غُبار عليه: «أحياناً أظن أن سبب افتتاني بسلمى هو كونها مختلفة عني تماماً، أردت الدخول إلى عالمها الذي لا أعرفه، والهروب من كل شيء أعرفه» (ص61) الأمر الذي يقودنا إلى «التكامل» الذي يتطلع إليه مع هذه الشخصية «المختلفة» كي يندمج في عالمها الخاص الذي بدا مجهولاً بالنسبة إليه.


أما الساردة الثانية، فهي آمنة التي عادت بنا إلى عائلتها في الناصرية وروت لنا حياة أسرتها التي تُعدّ نموذجاً مصغّراً للمجتمع العراقي بكل تناقضاته الفكرية المتعارف عليها منذ زمن طويل. ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى عمّها موفق الذي كان شيوعياً ثم انتمى إلى حزب الدعوة المحظور آنذاك، الأمر الذي أفضى إلى إعدامه من قِبل الأجهزة الأمنية للنظام السابق. وقد حاول صلاح، شقيق الساردة أن ينتحر لكنهم أنقذوه في الوقت المناسب ليموت في الحرب العراقية - الإيرانية مُحترقاً في جوف دبابته مخلّفاً ورءاه مكتبته الأثيرة التي تضم أفضل الكتب التي اقتناها حسب رأيه. لا شك في أن فكرة الموت أو الانتحار تتلاقح مع بيت الشريف الرضي الذي استشهدت به الروائية مُذكرة إيّانا بالخلفية الفنية التي يتشابك فيها الماضي البعيد مع الحاضر الأسيان حيث يقول الشاعر: «وموتُ الفتى خيرٌ له من حياته / إذا جاورَ الأيام وهو ذليل». وبما أن الساردة آمنة هي شخصية محورية في الحدث الروائي فلا بد أن نفيها حقّها لما تنطوي عليه من نَفَس إشكالي يتعاطف معه القارئ، خصوصاً وأن الكاتبة قد استعملت المحكية العراقية في توصيف هذه الشخصية ورسم معالمها الخارجية لا تلفت الانتباه إليها البتة. فالأم تردد: «ما أعرف شنو فايدتك؟» والأب لا يجد حرجاً في القول: «هذه الخِلقة منو ياخذها؟» والأخ علاء يستوضح: «أنتِ حاسبة روحج مثل النسوان؟»، والزوج إبراهيم يتساءل: «أنتِ ليش مو مثل الأمهات؟» (ص51) باستثناء شقيقها صلاح الذي نبهها ذات مرة حينما وجدت حلاً لمسألة حسابية صعبة فقال: «آمنة، أنتِ ذكية جداً» (ص47) لعل الخصلة الوحيدة التي أنقذتها من العنوسة هي «الشرف»، فغالباً ما تُوصف بـ«الشريفة والطاهرة» لكن هاتين الصفتين الحميدتين تؤكدان «قبحها» بمعنى من المعاني. تزوجت آمنة من إبراهيم دون أن تحبه، وعاشت غربتها المريرة رغم وجود الأبناء والأصدقاء، ومات زوجها متأثراً بمرض السرطان، وأوصى أن يُدفن بين أهله وذويه، فحققت له آمنة هذه الرغبة المِلحاحة.


أشرنا إلى نقطة التحوّل الأولى حينما عثرت آمنة على لوحة سلمى وديوان الشريف الرضي في أغراض ديفيد المُلقاة قرب حاوية النفايات فكان هذا المشهد بمثابة الحبكة الأولى، أما الحبكة الثانية التي حدثت في القسم الأخير من الرواية فتتمثل بتعرّف آمنة على الرسام عباس الذي أُعجب بها، ودعاها إلى شقته بعد أن استلطفته ووجدت فيه نموذجاً للزوج المستقبلي الملائم لسنّها، وحياتها الاجتماعية التي تكتنفها الغربة، والعزلة، والحنين إلى الأهل والوطن لكنها ما إن ذهبت إليه حتى وجدت لويزا، صديقته الهولندية القديمة، فقررت وأد علاقة عاطفية كانت في طريقها إلى النموّ والازدهار، وحينما زارها لتوضيح التباس القصد طلبت منه ألا تراه مرة ثانية لكنها في طوّية نفسها كانت تميل إليه، فهي شخصية إشكالية عويصة تترجح بين الإقدام والإحجام لكنها حسمت أمرها وأقنعت نفسها بأن «عبّاساً» كان وهماً في حياتها، وأن ديفيد الذي أحب سلمى لحد التضحية بحياته هو الحقيقة الدامغة التي تدفعها للعودة النهائية إلى خيمة الوطن ودفء الأحبّة.

13 Nov, 2017 08:56:34 AM
0

لمشاركة الخبر