Skip to main content
أنطوان الدويهي يأخذ قارئه إلى «آخر الأراضي»

الرجل يجلس في القطار. يسافر وحيداً إلى مرفأ سولاك الصغير، يتأمل المشاهد المنسابة أمام ناظريه من النافذة، يدخل في سكينة لا توصف، ينفتح أمامه أفق رحب، ويتذكر... ها هي الفكرة تستدعي الفكرة، ونهر الحكاية يتدفق غزيراً.

حيلة لطيفة وعذبة يتسلل منها أنطوان الدويهي، في مطلع روايته «آخر الأراضي» ليجوب بنا مدناً، بلداناً، قرى، يقطع أنهاراً، يتسلق جسوراً، يزور عواصم، ويصل إلى أقصى الدنيا. وهذا العمل هو الوحيد من لبنان الفائز ضمن اللائحة الطويلة لجائزة الرواية العربية «البوكر» لعام 2018، التي أعلن عنها أخيراً.

الرواية مركبة رغم بساطتها، عميقة بقدر ما تنساب أحداثها كما مياه رقراقة دون صخب، لكنها تحفر بكلماتها أخاديد في الروح. الراوي يستعيد، على مدى الصفحات، حكاية حبه الذي أفلت من بين يديه حتى أصابه مسّ من الهوس بالعثور، لمرة جديدة، على محبوبته التي اختفت. في خضمّ البحث المجنون، تتوالى قصص، تطل حكايات، يمر أناس، تعبر وجوه بعضها هامشي، وأخرى لا تنسى، لكنها تصب جميعها في رفد شرايين هذا العشق الأثيري الغريب الذي نادراً ما يجرؤ أديب عربي في زمننا على كتابة مثله. مزيج بين رومانسية الزمن الجميل وحرية الحداثة في التفلت من الشكل والقيود، وسباحة في بحر اللغة الآسر، وحبك لنسيج من الحكايات الغائرة في ذوات إنسانية تبحث عن خلاص.

تظن في البداية أنها حكاية الراوي مع سلمى فرح التي أسلمت الروح في ربيع العمر، ذات يوم ماطر في شقتها الوادعة في ضاحية «مونروج» الباريسية. ثم سرعان ما تلتقط اسم كلارا موران التي يتبين أن سلمى لم تكن غير مدخل روائي إلى لغزها، إلى غرائبية اختفائها. هكذا تتحول حياة الراوي / العاشق إلى رحلة لولبية في البحث عنها في الأماكن التي كان يفترض أنها تتنقل بينها «ها أنا أدور في الحلقة المقفلة نفسها لا أبارحها: من شقتي إلى المعهد الملكي، إلى صالة الشاي في حديقة لوتيسيا، إلى سولاك بالقطار، ذهاباً وإياباً، آخر الأسبوع. وها أنا الآن في صالة الشاي، أرنو إلى الأشجار العارية، الداكنة، العارفة، وترنو إليّ».

بهذه الشفافية يسير بنا النص الذي لا نعود نعرف هل نحن نستمتع لأنه يكشف لنا المزيد عن هذه الصبية العشرينية التي يبحث عنها حبيبها، أم لأننا في شوق إلى قصة حب على هذا القدر من النبل المفقود، أم لأننا نطل على حكايات صغيرة، كل منها تكاد تكون أقصوصة بحد ذاتها، أم ترانا غرقنا في الأسلوب الأثيري الهادئ الذي لا ينفعل ولا يتوتر مهما بدت الأحداث عظاماً.

بعض الصفحات تبدو وكأنها أقحمت على النص، كتلك التي يشرح خلالها الراوي في لقاء جامعي عن الكتابة، مباهجها، آلامها، يتحدث عن «الكتابة المطلقة»، وحيل الجوائز الأدبية، وكيف أن «احتضار الأدب الكبير هو مؤشر عميق لانحطاط العالم، وهو مؤشر لانحطاط الغرب الجمالي، والقيمي، والروحي أيضاً».

ينجح أنطوان الدويهي في تفادي الوقوع في حوارات نخبوية تقتل روح النص، رغم أننا نعيش بحضرة فنانين، وموسيقيين،و معماريين، ومصورين، وكتاب، وكأنما الكاتب يأبى إلا أن يجعل هذه الرواية بكل ما فيها مغلفة بجماليات تبقي قارئها مأخوذاً بسطوة هؤلاء المبدعين، بما لحياتهم من بساطة، ولما لدواخلهم من أسى يصعب كشفه أو فهمه.

إنها رواية البحث عن الحياة بعمق، بمتعة، بشغف، لكن هؤلاء أنفسهم سلمى، وكلارا، وكميل، وسارية، كلهم أشخاص ممتلئون بحب المغامرة، ويحاصرهم الألم ويطاردهم الموت، في الوقت نفسه.

النص رغم ذلك لا يبدو سوداوياً بقدر ما هو منساب في التسفار. يهرب من قصة هنا إلى حكاية أخف وطأة هناك. ويتمكن هذا الراوي المهاجر من استرجاع فصول وأحداث من حياته وهو يقوم برحلات متواصلة في القطارات، مستعيناً بالركاب الذين يصعدون ويهبطون، ليقرأ الوجوه، ويغوص فيما وراء الملامح، ليعود إلى مرآته في كل مرة أكثر صفاء وقوة. ينظر الراوي من النافذة ويغوص: «كانت نافذة القطار الساكنة، الحاوية انسياب السهول والتلال ومجاري الأنهر ومطارح الغياب، تفتح الذاكرة على مداها الأوسع. قلت لنفسي مرة: هذه هي نافذة الحرية واستعادة الذات».

فسحة الـ191 صفحة التي يتيحها أنطوان الدويهي لنفسه وقارئه كساحة تأمل في مسار شخصيات يفترض أنها عفية، سرعان ما تقود إلى نهايات محيرة. كما هي حالة المعشوقة كلارا، التي يفترض أنها كانت تبوح بكل شيء، وأنها تملك من الصراحة والشجاعة والعفوية، ما يجعلها ككتاب مفتوح. يقول الراوي وهو يصفها: «شديدة الصدق والشفافية في إدخالي، شيئاً فشيئاً، مع مرور الوقت إلى ماضيها، من دون مراقبة أو تمويه، خلافاً لما يمكن أن يحدث في مجتمعي الأصلي، حيث للتقاليد والأعراف وسلم القيم عين داخلية، تراقب كل شيء في العلاقة مع الآخر، خصوصاً بين الرجل والمرأة». هذه المقارنات التي تمر خلسة بين الغرب والشرق، وحكايات المتنقلين بين عالمين، وشاطئين، تصل في آخر الرواية إلى خلاصة إنسانية أعمق. ليست كلارا وحدها التي لها أكثر من وجه رغم ظاهرها البلوري، بل يكاد كل الذين نلتقيهم في الحكايات، يعيشون ازدواجية ما، بين ما يظهرون وما يبطنون، ما يجعل القريبين منهم يفاجأون غالباً، بسلوكيات لم تكن في الحسبان.

رواية لبنانية نعم، إنما في محاولتها سبر أغوار النفوس، ومطاردة الدواخل، واجتياز المسافات، وإسقاط الحدود الجغرافية، تذهب إلى حكايات بلا أزمنة أو أمكنة، لأن ما يجمع أبطالها ويفرقهم في آن، ليست الجنسيات أو الانتماءات، وإنما بحثهم الجمالي الدائب عن الأفضل، وهي الرحلة الأصعب التي غالباً ما تتعثر وقليلاً ما تصل إلى بر آمن ومريح.

12 Feb, 2018 04:05:03 PM
0

لمشاركة الخبر