تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
السعي إلى التحرر والحرية في رواية «هاتف الرياح»لمريم مشتاوي

يقول الروائي السوداني أمير تاج السر عن رواية «هاتف الرياح»: «تواصل الكاتبة اللبنانية مريم مشتاوي ما بدأت به في روايات سابقة... من الكتابة بحبر شجني خاص، فيه عواطف كثيرة، وأحاسيس إنسانية مدهشة، ورؤى وأحلام وكوابيس، وتفاعلات مع الجمال حتى في الكائنات الصلدة، وأيضا مع الأسطورة، من دون إغفال لهموم الوطن، وأنه الذراع التي يستخدمها الكاتب حين يكتب، والمتكأ الذي يتكئ عليه، حتى لو كتب عن أشيائه الخاصة جدا».
برز في ثنايا الرواية وما بين سطورها السعي الفطري الحثيث نحو التحرر والحرية والانعتاق من أي عبودية مهما كانت جميلة وبراقة، وبدأت منذ طفولة «مريانا» الشخصية الرئيسة في الرواية، وتسلط هذه المقالة الضوء على هذا الموضوع:
في الميتم، شهدت مريانا تعذيب صديقها «راوول»، واغتصابه من قبل الأب جرمان، الذي هددها بالمصير نفسه إن تكلمت، ولما فارق راوول الحياة، وقالوا«إن كلبا هاجمه حتى الموت»، هربت من الميتم مع الأم «إيفون» التي تبنتها ورعتها، لقد كانت صدمة لمريانا، أن الخطر والأذى والموت يأتي ممن يفترض أن يكون الملجأ والحنان والأمان، فهربت لتتحرر من خوفها والرعب الذي يسكنها من مكان يهدد وجودها.
لعب صادق دورا محوريا في حياة مريانا، حيث كان لها معلما ومربيا على الرغم من أنها كاتبة وصحفية؛ فقد أرشدها إلى الكتب التي تمدها بالثقافة والفكر والعمق والرؤية الواضحة لما حولها، وزرع فيها روح التمرد وعدم الاستكانة للمسلمات والموروثات، أي أنه بث فيها جين التحرر وطلب الحرية بعقلها وسلوكها والانعتاق من السائد والمتداول، وأن تكون لها شخصيتها المستقلة، وهذا أسمى أشكال الحرية أن ينظر المرء للأمور نظرة فلسفية مجردة، ويناقش أسئلة الوجود بعقلية منفتحة متأملة.
في غرفة زجاجية صغيرة، على إحدى تلال لندن، يوجد هاتف قديم جدا(هاتف الرياح)، مقطوع الأسلاك، متاح لمن شاء ليبكي ويشكو ويعاتب وينصت، ...؛ كوسيلة للتحرر من الضغوطات وتنفيس المشاعر والتخفف مما يثقل الروح، وقد لجأت إليه مريانا مرات عديده، كحال الكثيرين، الذين وجدوه ملاذا، ومستمعا مثاليا لأوجاعهم.
عندما انهارت، ووجدت نفسها في المستشفى، راجعت مريانا نفسها، وأنها تعبت من أفكارها التي تعصف بها؛ حنينا لصادق، وشوقا لرياض، وهروبا من ليث، وابتعادا عن أميرة والمرأة العجوز: «اتخذت قرارا بمحاولة التحرر من ذاتي لبعض الوقت... قد تكون استراحة محارب منهك مهزوم مجروح مصاب بالخذلان من رأسه حتى قدميه»، لقد كانت محاولة للنسيان، للتحرر مما يثقل روحها وعقلها ومشاعرها، من الأفكار التي ما تنفك تراودها وتشغلها وتؤرقها، ولكن التحرر من الذات ليس سهلا، بل قد يكون مستحيلا، فلن يستطيع الإنسان أن يهرب من نفسه، أو أن يتحرر منها إلا بشق الأنفس مع العزم والتصميم والقسوة على الذات.
يمثل «طوني» في الرواية مصير من يعاكس التيار؛ بحثا عن المعنى، الحب، الحقيقة. كان يسعى للتحرر من النفاق والقبح والرذيلة والشرور المتحكمة في الناس، فكان مصيره مستشفى المجانين، والحقن التي تبقيه غائبا عن الواقع. تقول زوجته: «الناس لا يقبلون أن تستفز أنانيتهم أن تُعرّى عورتهم.. هم يقبلون أن تجاريهم.. أن تنافقهم.. أن ترش الكولونيا على وجوههم لأنهم من حيث لا يشعرون هم يحسون بأنها تفوح برائحة نتنة»، وتقول: «إنك تحاول إعادة ترتيب العالم. العالم الميت والناس حوله جِيَف يتراقصون حول الفتات»، وتقول: «ألم تقل لي يوما لن نأكل أبدا من بقايا الموائد، لن يستهوينا فتات الأسياد.. إننا نكبر في الفكرة في أن نجعل للحياة معنى يليق بها كحياة»، ويقول طوني: «إن هذا العالم لم يعد يطاق.. لأن الحياة تحولت إلى حيَة برؤوس متعددة وكل منا يحاول أن يداعب رأسا من الرؤوس.. أن تكون له أنيابها ليلسع بعضه بعضا.. أنا أردت فقط قتل الحيّة لا الحياة». ليس مسموحا لأحد أن يوقظ النائمين من سباتهم، وإلا أتهم بالإزعاج وإقلاق راحة المجتمع، بأفكار تشككهم بما استمرأوا العيش عليه، ولذا يُحارب كل من يلقي حجرا في الماء الراكد.
عندما انطلقت المظاهرات في لبنان، أوفدتها القناة الفضائية التي تعمل فيها إلى هناك؛ لتغطية الأحداث، وإعداد التقارير عما يحدث، حيث انتفضت الجماهير في لبنان من أجل الحرية والكرامة وإسقاط الفاسدين والأسياد المتحكمين بالناس، وشعارهم سقوط جميع الكبار «كِلنٌ يعني كِلنٌ»، وكانت صرخة أطلقها الجميع؛ للتخلص من الفساد ورموزه وحماته، الذين سرقوا الحياة والحرية والكرامة من الشعب الذي ضحوا به على مذبح أطماعهم وجشعهم وسلطتهم.
ولكن الغريب، سلوك مريانا مع رياض، فعلى الرغم من رفضها لكل أشكال العبودية، وسعيها للتحرر من كل سلطة ظالمة منذ طفولتها؛ إلا أنها استسلمت لحبها له، مع أنه صارحها منذ اللحظة الأولى، بأن علاقتهما مؤقتة، ولن يقبل أن يتزوج فتاة من الميتم، وأخيرا خضع لسلطة العائلة، وهجرها دون عودة أو حتى اتصال أو سؤال. هذا التصرف غير مفهوم من مريانا، ويتناقض مع خلفيتها وما تربت عليه، ولكن يبدو أن الحب عبودية في الغالب، وتحرر وانطلاق أحيانا!!
إن الإنسان، أي إنسان يسعى للتحرر والحرية على أوسع نطاق، ولكنه يرفض أن يوصم أنه مستعبد، مع أن العبودية تتخفى بأشكال ومستويات مختلفة خادعة لا يكاد يسلم منها أحد، وحرية الفكر والتفكير هي أسمى أنواع الحرية، وأكثرها غيابا، وهذا ما يجعل من التحرر الجمعي عملية صعبة جدا وشاقة.
كانت مريانا هي الراوي الوحيد في الرواية «الراوي المشارك»، واتكأت في السرد على المناجاة والبوح والاسترجاع والذكريات والرسائل والتخييل والحكايات والتداخل القصصي وغيرها، وثمة ملاحظة جديرة بالذكر لها وعليها، وهي كثرة المصادفات في الرواية، خاصة فيما يتعلق برياض وصادق، فكل خيوط الرواية تؤدي إلى أحدهما، وتكشف جانبا كان خفيا من حياته.
وبعد؛؛؛ فإن «هاتف الرياح، الدار البيضاء: المركز الثقافي للكتاب، 2021، 164 صفحة»، هي الرواية الخامسة لمريم مشتاوي بعد: «عشق» و«ياقوت» و«تيريزا أكاديا » و«جسور الحب»، يصفها الناقد الجزائري عبد الحفيظ بن جلولي بأنها:«مسار سردي رؤيوي، أي تكثر فيه النظرة إلىالحياة ، وهو ما يقترب بهذا النص الحكائي من الرواية الجديدة، باعتبارها تهتم بالإنسان وموقفه من العالم، طبقا لرؤية ميشال بيتور».
ويقول عنها القاص والناقد العراقي عدنان حسين أحمد: «تكشف مضامين هذه الرواية عن طاقتها الفذّة في تطعيم النص السردي بأفكار ومهيمنات تجمع بين الفكر والشعر والفلسفة، ولا تجد حرجا في مواجهة مَواطن الضعف لدى رجال الدين في المؤسسة الكهنوتية التي تُخلخل هي الأخرى منظومة القيم الأخلاقية في المجتمع اللبناني على وجه التحديد، وهو صورة مصغرة للعالم العربي والإسلامي برمته».
يذكر أن مريم مشتاوي أكاديمية من أصل لبناني تعمل في لندن، وأصدرت عددا من المجموعات الشعرية وقصص للأطفال، وهي كاتبة مقالات نقدية، وناشطة ثقافيا في لندن.

 

 

المصدر: الدستور

20 أغسطس, 2021 04:15:14 مساء
0