تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
خالد علي مصطفى تأملات في كتاب «شعراء خارج البيان الشعري»

لا نعرف السبب الذي من أجله اختار المؤلف أو الناشر العنوان « شعراء خارج البيان الشعري « لكتاب الشاعر الناقد الراحل د. خالد علي مصطفى- عراقي فلسطيني – (1939- 2019) مع أنه دراسة تقع في ثلاثة أقسام عن حسب الشيخ جعفر، وحميد سعيد، وسركون بولص، وكلهم من خيرة الشعراء العرب وكبارهم. وقد يستدل القارئ من طبيعة المادة النقدية الواردة في الفصول على أن المؤلف يعتقد - محقا في اعتقاده - بخروج هؤلاء الشعراء عما هو سائد، وشائع، ولهذا يعدهم خارجين على ما هو تقليدي، ومتبع، حتى في الشعر الذي يكتبونه، وهو الشعر الحر أو « شعر التفعيلة « أو الشعر في النثر، أو مثلما يقال قصيدة النثر. مع أنّ للمؤلف تحفظات حيال بعض هذه التسميات، فهو مثلا يمقت عبارة شعر التفعيلة، لأن التفعيلة موجودة في الشعر، حره ومقيده ، وقديمه وجديده. وهو يفضل تسمية « الشعر الحر « وهي التسمية التي أطلقتها نازك الملائكة، وعارضها فيها كثيرون، وأولهم جبرا إبراهيم جبرا (1).


ويتتبع المؤلف في القسم الأول من كتابه ما يعرف بالقصيدة المدوَّرة لدى حسب الشيخ جعفر، مستذكرا علاقته الشخصيّة بالشاعر، وعلاقة حسب بحميد سعيد، ومسكنهما المشترك على كثب من جامع حيدر خانه في شارع الرشيد ببغداد، مثلما يستذكر – في هذا السياق- مؤتمر الأدباء العرب في بغداد عام 1969 بحضور السوري أدونيس ضمن الوفد اللبناني. وقد ألقى فيه قصيدته المشهورة « هذا هو اسمي « وهي قصيدة أصابت الشعراء بالذهول لما فيها من التدوير، وهو جريان الأبيات واحدا في الأخر من غير توقف على روي، أو تمَفْصل في القوافي. فالقصيدة المذكورة بدت للحضور من الشعراء، ومنهم حسب الشيخ جعفر، كأنها بيت واحد متصلٌ، متراكم الصور، والعبارات، والرموز و(الثيمات) المجتزأة تراكمًا لا انقطاع فيه، ولا توقف. ولا يفتأ المؤلف يؤكد أن حسبًا وقع تحت سحر هاتيك القصيدة، وما هي إلا أسابيع قليلة حتى نشرت مجلة الكلمة النجفية قصيدة له هي قصيدة « قارة سابعة « ينهج في كتابته لها نهج أدونيس في «هذا هو اسمي « من حيث اعتماده التدوير.



ولا ندري إنْ كان المؤلف خالد علي مصطفى بهذا يُعلي من شأن الشاعر، أو يغضُّ منه، ومن شاعريته، إذ يرميه بتهمة التأثر السريع، غير المتأني، المفتقر لأي تسويغ، بقصيدة واحدة لأدونيس. بيد أنه تراجع عن هذا إذ يحاول في بقية القسم الأول تتبع ظهور التدوير في القصيدة زاعمًا أن لابن دريد 327هـ مقطوعة رجزية لجأ فيها للتدوير. والقصيدة التي نقلها عن الشيخ جلال الحنفي، وكتابه (العروض) من مشطور الرجز، ولا تبدو لنا مقطوعة مدوّرة، علاوة على أن ابن دريد ليس حجة في الشعر، فهو لغوي وليس شاعرًا، وإن رويت له مقصورة مشهورة. وفي موقع آخر يورد لنا مقطوعة مستلة من كتاب أبي العلاء المعري « الفصول والغايات» نقلها مصطفى جمال الدين زاعما أنها من الهزج، وأن فيها تدويرًا، ولكن هذا غير دقيق؛ فالأبيات لا تربو على الثلاثة، وهو عدد لا يكفي لكي يلحظ فيه التدوير ويستبين. وقد يعد هذا النموذج من قبيل التضمين. على أن المؤلف وُفِّقَ في تتبع ظاهرة التدوير لاحقا بعد أن أخفق في إثبات شرعيتها التراثية. وذلك أنه يشير لقصيدة يوسف الخال المدورة المنشورة في مجلة « شعر « عام 1957 وأخرى لخليل خوري في العام 1958 وثالثة ليوسف الخطيب (1962) وهذه النماذج جميعا سبقت « هذا هو اسمي « لأدونيس1969. ومما يستغرب أن المؤلف لم يشر لما ذكرته نازك الملائكة في قضايا الشعر المعاصر عن قصيدة لها مدوَّرة نشرتها في إحدى المجلات، وأعجب بها شعراء عديدون، وكتبوا قصائد متأثرين بها في ما تزعم، على الرغم من أنها تأخذ عليهم مبالغتهُم في ذلك الإعجاب (2) .


وأيا ما يكُنْ الأمر، فإن المؤلف حسم أمره، واتخذ قراره، ووقف بنا عند « قارة سابعة « لحسب الشيخ جعفر. وهي من قصائد ديوانه الطائر الخشبي، وتحتل مساحة كبيرة فيه إذ تقع في نحو 23 ص. وهذه الإشارة لحجم القصيدة تعطي الانطباع بأن المؤلف تجاوز البحث عن البيت أو البيتين أو الأبيات لإضفاء الشرعية الكلاسيكية على التدوير، الذي حملت عليه نازك الملائكة في كتابها سالف الذكر حملة لا نقول إنها حملة شعواء، ولكنها - على الأقل - تكاد تكون شعواءَ بمعنى من المعاني. وقد أمْعنت دراسة المؤلف لقارة سابعة في الملاحِظ العروضية. ومع أن الإيقاع والوزن وتسلسل الأبيات على وفق النمط الموسيقي الذي يطغى عليه التدوير ويهيمن يقرب بالقصيدة من النثر، وينأى بها عن الشعر الغنائي(3)، إلا أن الحديث عن هذا كله لا يكفي للكشف عن شعرية التدوير في القصيدة.


وهذا لحسن الحظّ ما عمد إليه في تناول المفارقات في قارة سابعة، مؤكدا بأمثلة كافية اعتماد الشاعر في مفارقاته وصوره ما سماه تداعي المعاني. وتعدد الأصوات. وبهذا تكون القصيدة ليست قصيدة مدورة فحسب بل قصيدة درامية يغلب عليها تعدد الأصوات الذي يتجلى في التنقل المفاجئ من المتكلم إلى الغائب ، ويتكثّف فيها الزمن تبعا لذلك، بحيث يندغم الماضي المستعاد بالحاضر الآني، ويندغم الحاضر في المستقبل الآتي. كاشفًا بهذا المونولوج الدرامي عن ذوبان التفاصيل في بنية واحدة، متماسكة، صلبة، يطغى عليها التدوير، وهذا ما يتكرر في تناوله لقصائد مدورة أخرى منها « زيارة السيدة السومرية «، و» الرباعيات الثلاث « مركزا على صورة المرأة تارة، وعلى تنافر القرية والمدينة تارةً أخرى (3).


حميد سعيد


وفي القسم الثاني من الكتاب يستعيد المؤلف بعض الذكريات عن حميد سعيد، ذاكرًا أول لقاء لهما، وأول قصيدة قرأها له، وأول تعليق له على قصيدة لحميد في مجلة الكلمة. وفي تلك القصيدة وجد ما يشير لتحول شعر حميد تحولا كبيرا بحيث يكون شعره ما بعد « شواطئ لم تعرف الدفء « شيئا وما قبله شيئا آخر. وسواء أصح هذا أم لم يصح، فإن خالدا يبادر لدراسة أشعاره من منظورين هما: الموضوع والتصور. ففي « لغة الأبراج الطينية « و « قراءة ثامنة « توشك القصائد أن تكون رسائل إبلاغية، وفي دواوينه التي تلت، ومنها « باتجاه أفق أوسع «و « فوضى في غير أوانها « تطورت تطورا لافتا مقتربة من الرؤيا المَشْهدية. متضمنة إشارات تعبيرية مهمة ومهادًا تكوينيا لقصائد الديوانين. ومع ذلك لا يرى المؤلف في هذه الإشارات شيئا جديدا كل الجدة فقصائده فيهما موصولة بقصائده في « شواطئ لم تعرف الدفء « وغيره من دواوين مبكرة. بدليل أن فيها جميعا رموزًا تتكرر من حين لآخر مثل الماء، والفرات، والصحراء، علاوة على الاقتباسات المتكررة من مصادره؛ من قرآن كريم، ومن شعر عربي حديث وقديم، ومن وقائع تاريخية، ومن شخصيات نموذجية، ومن لغة شعرية كلاسيكية لم تعد متداولة لكنها على أي حال تذكرنا بالموروث بدءًا من الشنفرى، ومرورا بأبي نواس، والمتنبي، مثلما جاء في معلقة البصرة.


وعن حرية التصَوُّر يستفتح المؤلف الحديث بعبارة النفري « إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة «. ينسحب مدلول هذه العبارة على قصائد حميد الطوال، وعلى قصار قصائده. فعلى الرغم من التزامه بالموضوع السياسي، إلا أن لديه في المطولات غوامضَ يهرع عندها القارئ لما في القصيدة من إشارات مباشرة، فالمباشر في القصيدة يفسر غيره. أما قصار قصائده فتقرب قربا شديدا من الأسْطَرَة. ففي كل قصيدة منها أسطورة صغيرة الحجم كبيرة الدلالات. يذهب فيها الخيال مذهبا بعيدًا خلافا لما هو شائع في المطولات من تناوح وتراوح . ففي ديوانه « باتجاه أفق أوسع « نجد النص الآتي الذي يوشك أن يكون أسطورة على الرغم مما فيه من تكثيف يصل إلى درجة الشحّ:


ينتظر امرأةً لا اسم لها
ويقيم لها وطنا في السر
وبيتا في الغيبوبة
يمنحها أوصاف المحبوبة
يتغافل عن أخرى ويغافلها
يفتح باب سريرتها
لا لون لبهجتها
لا صوت لضحكتها
في المرآة رأى امرأة ثالثة
حاول أن يتذكرها
ناداها
لا اسم لها


لا تعدو هذه القصيدة، في رأي المؤلف، أن تكون أسطورةً تدور في ذهن الشخص الذي يومئ إليه الشاعر بعبارة ينتظر امرأة. وعلى الرغم من أن في القصيدة ثلاث نساء إلا أنهن في الواقع امرأة واحدة تنشطر ثلاثا في تعبير رمزي عن فكرة مؤداها تكرارُ البحث عن مثال بلا فائدة. فالقصيدة صورةٌ حسية لغياب الأشياء المعنوية والانتظار المُمِضّ.


سركون بولص


ويبدو المؤلف معجبًا بشعر سركون بولص الذي لا يتذكر أنه التقاه غير ذلك اللقاء الذي جمع بينهما فيه مقهى البلدية الواقع في شارع متفرّع من ساحة الميدان حيث مبنى البرلمان الملكي. وكان ذلك في صيف 1964. أما بعد ذلك فقد اقتصر اللقاء على صفحات المجلات، وفي مقدمتها مجلة (شعر) التي نشرت لسركون بولص في تلك السنة أربع عشرة قصيدة. أعقبتها بنشر ثماني أخرى في عدد آخر. وإذا كانت قد تقطعت بهما السبل على المستوى الشخصي، فإن تواصلهما عن طريق الشعر ونقده لم يتوقف. ولهذا يجد القارئ في القسم الثالث من هذا الكتاب تتبعا يقظا لأعمال سركون بولص مع ذكر الزمن والمكان الذي نشر فيه كل من هاتيك الأعمال سواء منها القصائد القصار أو المطولات، والموزون منها وغير الموزون. مع تركيز لافتٍ على دوره في قصيدة النثر في العراق.


فتحت عنوان « من شعرية النثر إلى نثرية النثر « يجد القارئ تناولا نقديا لقصائد بولص المنشورة في مجلة شعر ربيع 1967 مع وقفة متأنية إزاء بواكيره الموزونة وعددها سبعٌ وعشرون قصيدة. وهذه القصائد على الرغم من قيمتها الفنية تخلى عنها سركون بولص عندما جمع أشعاره الكاملة . فكأنه يعلن بذلك القطيعة مع الشعر المنظوم، ذلك لأنه يؤثر أن يكتب قصيدته بتلقائية مسترسلة، وبسليقة عفوية، صادرة عن طبع، لا عن تصنُّع وتطبّع.


على أن ميله - في ما يرى ناقدنا - هو لقصار القصائد، ولهذا غلب هذا اللون من النصوص على شعره. يقول مخاطبا امرأ القيس الكندي في قصيدة من هذا النوع، قصيرة، مكثفة، محدودة جدا:


المخلب المدفون في لحم القوافي
لن ينزاح يا امرأ القيس
قد يُسلبُ رجلُ كلَّ شيء
حتى ينتهي على الحصير
لا جمْر
لا خمْر
لا أمْر
فهذه قصيدة تقول أشياءَ كثيرةً في كلمات محدودة. وتلك هي بلاغة النثر الذي يراد منه أن يحل محل الشعر بومضاته، وإشاراته، ولمحاته. ومصادر الإلهام لدى سركون بولص متعددة، أولها الذاكرة التي تسمح له بتجميع الشتات من صور تعبيرية، ورموز تتقارب، وتتفاعل في إطار القصيدة، على الرغم من محدودية ذلك الإطار. وعلاوة على ذلك ثمة مصدرٌ آخر، وهو التخييل الذي لا يقل تأثيره في قصائدة عن تأثيره في المحكيات السردية. يضاف إلى هذا الانعكاس، وهو ما يذكرنا برؤية الأشياء بالعين. فحين يستهل قصيدته بقوله : ظهرها العاري مقلَّمٌ بضوء النيون / كسطح سفينة خرافية تمخر عباب البحر في شمس الفجر / فإنه يرسم بهذه الكلمات صورًا تُرى قبل أن تدرك بوساطة الحواس الأخرى. فسركون بولص كيفما نظرنا إلى قصائده تأكدنا من أنها شعرُ الأشياء المتجسّده، لا الأشياء البعيدة عن متناول الإدراك الحسي.


مما سبق يتضح لنا السبب الذي من أجله اختير العنوان « شعراء خارج البيان الشعري «، فليس فيهم شاعرٌ إلا وهو نسيج وحده، وفريد عصره، يبدعُ ويضيفُ بما يبدعه جديدًا، فلا يكرّر نفسه إطلاقا، وعليهِ ، فهو شاعر خرج عن شعرية القطيع، وطبَع شعره بفرادة، وهذه هي ترجمة ما في الخروج على البيان الشعري. ولا تفوتنا ملاحظة على جانب من الأهمية، وهي حرص المؤلف على تضمين فصول الكتاب نماذجَ لكل شاعر من الثلاثة، فكأنه بهذه النماذج القليلة يؤكـّد ما يقوله في الدراسة النقدية، والرؤية الإبداعية، وهذا حسبه.


 هوامش:


1.جبرا إبراهيم جبرا:الرحلة الثامنة، ط1، صيدا؛ المكتبة العصرية، 1967، ص 18 وكان قد نشر المقال في الأديب اللبنانية قبل ذلك.
2.انظر ص 46 – 47 من كتابنا فدوى طوقان وآخرون، عمان، ط1، أمواج للطباعة والنشر، 2021
3.سبق أن تناولت شعره بين الغنائية والسردية، انظر كتابنا من الشعر الحديث والمعاصر، ط1، عمان: دار ورد الأردنية للنشر، 2009 ص ص 177- 191

 

 

 

المصدر: الدستور

04 سبتمبر, 2021 11:27:25 صباحا
0