مارغريت دوراس.. وألـم كتابة الهامش
فتحية حسين الحداد
تبدأ الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس روايتها «الألم»، الصادرة عام 1985، بما يمكن أن نسميه «تمهيداً» استغرق بضعة سطور استهلتها بالعبارة التالية: «عثرتُ على هذه اليوميات في خزانة زرقاء في دفترين يعودان لفترة إقامتي في منزلي في منطقة «نوفــل لو شاتو».
طباعة تلك السطور في صفحة تقابل بداية الحكاية أعطاها شيئا من صفة الهامش، وما جاء فيها منحها مرونة حاشية وقوة نص يستند عليه العمل في أكثر من زاوية تركز على الألم. الكاتبة دوراس وصفت تلك الأوراق بأنها «يوميات» وكأنها، مبدئيا، تقترح تصنيفا لروايتها باستخدامها الكلمة الفرنسية «Journal»، مضيفة أنها وجدتها في خزانة بذاتها في بيت نعرف من سيرتها أنها سكنته بالفعل.
كتابة الألم
للوهلة الأولى توحي تلك التفاصيل بأنَ ما أتى في الرواية لاحقا يقع ضمن أحداث حقيقية عاشتها المؤلفة او شخصية السارد، لكن قراءة التمهيد بتأن يحفز السؤال: هل وظيفة الأدب تقديم الحقيقي وتجاهل ما يُــبْــدِعُهُ الألــم؟ أم أن على القارئ توقع عالم تخلقه الكتابة؟
ما اعتبرناه تمهيداً كان بمنزلة نص محاذٍ للرواية، حيث تضيف دوراس «لا أتذكر البتة أني كتبت هذه اليوميات. أعرف وأدرك أني كتبتها، فأنا أتعرف على كتابتي والتفاصيل التي رويتها في هذه اليوميات، وأرى المكان، محطة أورسيه، الرحلات، ولكن لا أرى نفسي وأنا أكتب هذه اليوميات، متى كتبتها، في أي سنة، في أي بيت. لم أعد أعرف شيئا».
ما بين الشك واليقين
قبل الولوج في أحداث الرواية أخذتنا دوراس إلى محطة اختلط فيها الشك باليقين، فإن عدنا إلى سيرتها ولقاءات معها، وجدنا لها على اليوتيوب مقابلة أجرتها قناة (RTF) الفرنسية في ديسمبر 1963، أي قبل عقدين من صدور رواية «الألم». في اللقاء تحدثت دوراس عن الدرس الذي تلقته/استفادته من قراءتها لــمارسيل بروست، لنتوقف عند اشارتها إلى أسلوب مؤلف «البحث عن الزمن الضائع»، حيث تقول في الدقيقة الرابعة «علمني أن الكذب موجود في الأدب وأن هناك دائما تكنيك لذلك».
لا يخلو الأدب من الكذب، والأمر يتطلب جانبا من حرفية الساحر ومعرفة تقنيات كتابة تتعاضد فيها العناصر، وإن تضادت، لتخلق صورة وتقدم انعكاسها وتقترح واقعا يخضع لمعايير الاحتمال، والمستحيل أحياناً. دوراس لم تضع عنواناً للصفحة الأولى من كتابها، لكن تلك الصفحة أخذت صفة «التمهيد» عندما تساءلت صاحبة «الألم»: كيف أكون بانتظار روبرت وأكتب شيئا كهذا؟ تساؤل يأخذنا إلى تأمل مفهوم «المصداقية في الأدب»، والعلاقة المحيرة بين الألم والكتابة، لامرأة يبدو أنها كتبت يوميات، فاقت المائتين صفحة، وهي تنـتظر بقلق عودة زوج تم أسره خلال الحرب.
حبل الراوي والمؤلف
بين متعة القراءة وألم الكتابة أو كتابة الألم، يُشعرنا التمهيد بأننا نقفز على حبل يشده المؤلف من طرف ويمسك به الراوي من الطرف الثاني لينتقل القارئ، في لعبة قفز الحبل، بين جهتين وفي لحظة قد يكون على خط تماس الثبات فيه يفسد اللعبة وقد يؤدي إلى السقوط.
تستغرب دوراس تركها تلك اليوميات لزمن في بيت ريفي تغمره الرطوبة شتاء، وكأنها ترمز إلى تأثر الأوراق بمطر خلق فراغا يبرر اضافات اضطرت إليها بعد مرور السنين، ثم تشير في نهاية التمهيد أو الهامش إلى علاقتها بالكتابة وبنبرة العاجزِ تقول: الألم من الأشياء المهمة في حياتـي، أما كلمة «كتابة» فلن تناسب أو تكفي لاحتواء هذا الشيء. أجد نفسي أمام صفحات ممتلئة بانتظام بخط مرتب بدرجة مدهشة. أنا أمام فوضى عارمة بأفكار ومشاعر لم أجرؤ على الامساك بها، وهذه بالنسبة إلى الأدب، تجعلني أشعر بالخجل.
الرواية كفيلم
الرواية أعيدَ صياغتها عام 2017 ليخرج النص الأدبي كفيلم عـــــنوانه Memoir of War، حيث استثمر المخرج تمهيد الرواية في تجسيد المشهد الأول دراميا.
علاقة مارغريت دوراس بالتأليف حظيت بأكثر من دراسة، وضمن منشورات جامعية، صدر في 1989 كتابٌ نقدي عنوانه «دوراس أو الألـــم» للباحثة دانيال باجومي Danielle Bajomée) ) تعرضت فيه لأعمال وأسلوب الروائية الفرنسية.
المصدر: القبس الثقافي