تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
«أرق»... سردية اختلال العقل

في مبنى هزّه الانفجار، حيث المكتبة العامة لبلدية بيروت بمنطقة الباشورة، يُناقَش كتاب كل شهر، ضمن فعاليات «نادي الكتاب»، الذي سيبلغ الأربعة أعوام في فبراير (شباط) المقبل. وهذه المرة، يقع الاختيار على «أرق»، أحدث روايات الكاتب المغربي الفرنكوفوني الطاهر بن جلون، صاحب الـ«غونكور» عن روايته «ليلة القدر». في البداية، تشرح منظّمة النشاط سوزان الأمين أنّ الخيارات الأدبية للنادي تتعمّد التنوع ولا ترتكز بالضرورة على شهرة الكاتب، وهذا جزء من دور المكتبة وإصرارها على تكريس الكتاب الورقي برغم موجة الإنترنت وقراءات الـ«أونلاين».


ويحسب لمكتبة بيروت، بالتعاون مع «جمعية السبيل»، نضالها الجدّي للتمسك بفكرة نادي الكتاب كمساحة متنوعة للرأي والنقاش. وبرغم ما يجري في الخارج من طمس وإزهاق أرواح وبشاعة. وهي محاولات فردية، وبسيطة أيضاً، لكنها ضرورية ومهمة من أجل سُمعة بيروت قبل الرصاصة الأخيرة.


والرواية محل النقاش، منهم من قرأها بالفرنسية عن دار «غاليمار»، ومنهم من قرأها بالعربية (ترجمة أنطوان سركيس) عن دار «الساقي». وتسرد سوزان الأمين، مسؤولة النشاطات الثقافية في المكتبة، الخطوط العريضة، وتترك للحاضرين التعقيب والتعليق. البداية من عنوان الرواية «أرق»، ولا مفر من استعادة هذا المرض المتمادي في الانتشار وقسوة أعراضه منذ اجتياح «الكوفيد» تغذّيه العزلة وتزجّ البشر في صراع حاد مع حالاته وأوقاته. وكما يُبيّن الطاهر بن جلون في السرد، فإنّ العقاقير لا تعود تنفع، وقد تتسبب، هي الأخرى، بأمراض وأعراض أشد فظاعة من الأرق نفسه.


يدور النقاش حول الحالة الكوفيدية التي لا تزال تقبض على الأنفاس وتقضّ المضاجع. ولعل الروائي المغربي - الفرنسي، استلهم بعضاً من «عبثيتها» في هذه الرواية، من دون إشارة مباشرة، إذ تدفع استحالة النوم، بطل قصته، كاتب السيناريوهات، إلى التفكير بمَخرج يتيح له استعادة الأحلام التي تحرّك الخيال. وحين يستنفد الحيلة، تتدخل سخرية القدر لجرّه إلى حيث «الخلاص»، لكن هذه المرة بالقتل!


هنا، تتفاوت الآراء خلال الندوة: بعض الحاضرين من القراء تساءل عن جدوى القتل، ولِمَ «على الهائمة روحه في الضياع»، أن يقبض على أرواح الآخرين ليبلغ سكينته؟ بعض آخر تطرّق إلى ثنائية الخير والشر، خصوصاً أنّ بطل الرواية يتعمّد الانتقائية في اختيار ضحاياه. فهو يفضّلهم أولاً من المرضى المتألّمين، المنسيين، المُهمّشين؛ وثانياً من الفاسدين في المجتمع، مرتكبي التوحّش والمتسببين بتعاسة الإنسان.


يطول النقاش والأسئلة والتفاعل والنقد أيضاً، إذ رأى البعض أن الرواية «انجرفت» باتجاه الإيقاع المتشابه والمبالغة في الوصف. الجرائم في الرواية كانت تصاعدية، تبلغ ذروتها بموت مرتكبها نفسه. ويصبح البطل أمام معادلة قاسية: النوم العميق يعني ارتكاب جريمة من العيار الثقيل. الموت «الصغير» لا يضمن سوى ساعات نوم عابرة، إذن، فالموت «الكبير» هو «الحل»! هذه الطبيعة البشرية الميالة دائماً إلى المزيد. لا اكتفاء. لا شبع. لا رضى ولا قبول. الواقع يستدعي السخرية ويحرّض على «شطحة» العقل. وهنا تنقسم الآراء. فبالنسبة إلى البعض، لا بد من التوقف أمام سؤال بمثابة إدانة: هل ثمة في الحقيقة هذا الخرق المفضوح والمكشوف للطاقم الطبي، فيتنكّر قاتل بزي ممرّض لارتكاب جريمته؟ بعضٌ عقّب بأنها رمزية يُسقطها الكاتب المغربي على نظام بلاده الهشّ، كرمزية التطرّق إلى الانحلال الجنسي وسطوة الشعوذة على التركيبة الاجتماعية. وهي اختزالات تقدّمها الرواية بعبثية صادمة، لا يعود معها القارئ على دراية بحقيقة ما يجري بالفعل، بل تختلط الأحداث ويتدخّل الخيال المسافر بعيداً في رسم المتاهة وتكثيف الدهاليز.

 


الخصوصية المغربية للرواية، سرعان ما تتعدّى ذاتها لتصبح إشكالية الوجود والإنسانية المصابة بأزمات العصر. وفي إسقاط سريع للرواية على المقتلة اللبنانية، تتجلى ذروة التماهي السياسي والاجتماعي والنفسي باختيار البطل مصرفياً مغربياً كأكبر «غنائمه»، إذ يتيح التخلّص منه عبر نوم عميق يمتد لفترات طويلة. المفارقة أيضاً أنّ «تصفية» المصرفي ترتدّ على القاتل نفسه فترديه قتيلاً! ذلك لأنّ قتل البؤساء (الناس) «سهل»، لا متاعب فيه ولا عقاب؛ أما التخلص من «الكبار» فباهظ، لا تستمر بعده الحياة «على طبيعتها».

 


وطُرح في القاعة سؤال مهم: «هل ينبغي التعاطف مع القاتل؟» مع إجماع بأنّ هذا التعاطف لم يتحقق بعد قراءة الرواية لصعوبة تماشي الأحداث، بجانبها المباشر، مع الواقع. فربط علاج الأرق بالقتل، بشكله الظاهري، يستدعي الغرابة؛ لكنه بدلالاته، على صلة عميقة بالحياة ما بعد «الكوفيد»، وبالوقت المستعجل. إنها رواية التناقضات واختلال توازن العقل. هذه الأرض عصفورية.

 

 

 

 

المصدر: الشرق الأوسط 

25 أكتوبر, 2021 01:22:18 مساء
0