محمد السماعنة جماليات الأسطورة في رواية «طاقية الإخفاء»
كثيراً ما استخدم الأدباء أساطير شاعت على الألسن وتداولها الكثير من الأدباء في كتاباتهم مثل عشتار، وتموز، وأسطورة إيزيس واوزريس وغيرها من الأساطير، فقد وظفت التجربة الروائية العربية الكثير الكثير من الأساطير والرموز الأسطورية، ولعل أهم ما يميز الأساطير وارتباطها بالأدب هذه المساحة التي تتوفر للروائي أو الأديب في بث وطرح الكثير من القضايا الهامة التي قد تهم الفرد والمتلقي في مجتمع ما، فتوظيف الأسطورة في الأدب تعمل على توسيع مساحة النقد الاجتماعي، والرواية التي بين أيدينا تبدأ بتوظيف الأسطورة من العتبة الأولى – العنوان- فقد عنون الروائي د. محمد السماعنة عمله الروائي بواحدة من الأساطير القديمة « طاقية الإخفاء» وهي من الفلكلور والميثولوجيا الإغريقية والقصص الخرافية، وقد قيل أن «فرساوس» يستعير هذا الغطاء للرأس من الإلهة أثينا و يستخدمه ليتسلل إلى ميدوسا النائمة ليقتلها، وقد ظهر على غلاف الرواية الأمامي صورة طاقية وفوقها العصا السحرية، وظهرت ساعة كبيرة ظهر منها مجموعة من الأرقام، فالزمن من العناصر الهامة جداً وقد وظفه الروائي بأسلوب قريب من الأسطورة والخرافة، وسوف نتوقف عند هذ العنصر لنرى جماليات توظيف هذا العنصر في الرواية واثره في إثراء النص..
وفي سابقة قليلاً ما تحدث، أهدى الروائي عمله إلى الشخصية الرئيسية والمحورية في العمل « عروق» لعروق التي تحلم بالشمس...فالروائي في إهدائه يفتح لنا طاقة وباباً آخر للولوج إلى متن الرواية، فيتمنى لعروق الحرية والخلاص من العبودية، عبودية «الهبر».
«عروق» التي تطمح للحرية تتمنى التحرر من القيود التي فُرضت عليها، حتى اللون الأزرق الذي تعشقه ممنوع عنها، ممنوع أن ترتدي اللون الأزرق، وقد تم إخفاء لعبتها ومخدتها الزرقاوين، قمع، وظلم، واعتقال، وكبت، جعل من عروق بركاناً من الغضب، فقررت أن تدخل القصر، وفي غرفة من غرف القصر كانت الطاقية الحمراء اللامعة تتوسط الغرفة فتناولتها ووضعتها على رأسها فاختفت عن الأنظار، من هنا تبدأ أحداث الرواية.
فالطاقية التي في قصر الزعيم هي أداة من أدوات الظلم الكثيرة ولكنها أكثرها تأثيراً.
جزيرة الذمار «الفضاء الأسطوري»:
اختار الروائي د. محمد السماعنة لروايته فضاءً طبيعياً، جزيرة الذمار، وبأسلوبه الممتع والسلس جعل من هذه الجزيرة فضاءً أسطورياً ثرياً برموزه، ودلالاته العميقة، فالجزيرة يحيط بها الغموض والقوانين الجائرة، فهو يصفها في لوحات عديدة وقد لفها الغموض والغرائبية، والخوف الذي يطارد كل من سكنها، الغرفة الحمراء، واحدة من الأسرار التي يحتفظ به الزعيم، غرفة أسطورية لا يدخلها أحد سوى الزعيم، ولكن عروق التي لم ترض الظلم والضيم، اقتحمت هذه الغرفة وسرقت طاقية الإخفاء لتلعب دور البطل الثائر، الثائر على الظلم والعبودية، الأحداث التي تجري في هذه الجزيرة فيها الكثير من الغرائبية، فقد استطاع الروائي من أسطرة مجموع من الأحداث، أضفت على العمل الروائي الكثير من الغرابة والمتعة، فاختفاء عاملات النحل الذي احتجزهن الإنسان بطمعه، حتى قرر النحل عدم إعطاء حصته من العسل للإنسان إلا بعد اطلاق صراح عاملات النحل، وها هو الزعيم يستعين بالعراف لإبطال تأثير الطاقية وفاعليتها، فيقترح العراف بذبح بقرة، وفي هذه القصة يتناص الروائي مع القصة الواردة في القرآن الكريم « يا زعيم علينا أن نذبح بقرة حمراء في وسط ساحة الجزيرة يوم الثلاثاء، فوق المنصة على ألا يصيب دمها الأرض، وألا يبقى على النطع منه شيء، وأن تحضر لي دمها في وعاء فخاري قبل غروب الشمس واحذر أن يرى الدم في الوعاء أحد من البشر حتى من يجمع الدم في الوعاء»
فالفضاء الروائي بشكل عام لا يخلو من وجود الغرائبية والأساطير في قصص ومشاهد كثيرة في الرواية، استخدمها الروائي لإسقاطها على الواقع العربي المعاصر، بأسلوب فيه الكثير من المتعة والغرابة.
أسطرة الزمن:
وظف الروائي الزمن بأسلوب أختص به دون غيره من الروائيين؛ فالأزمنة التي وظفها الروائي غير حقيقية ولا تمت للحقيقة بشيء، بل تكاد تكون أزمنة غرائبية أسطورية، أزمنة مجهولة، في غالب الأمر تُنسب إلى الأحداث والظروف والمناسبات مثل سنة الجلجلة، سنة الموج الأحمر، عام القلقلة، سنة الهبة الأولى، شهر الصرخة من عام الزلزلة، فالأسلوب الذي استخدمه الروائي د. محمد السماعنة أضفى على الزمن بعداً أسطوريا، من خلال استحداثه لهذا الزمن غير الموجود حقيقةً بل هو زمن خيالي لا يحدد وقتاً بعينه، ولم يقتصر أسطرة الزمن في الرواية على السنوات كما تم ذكره، بل وجدنا أن الروائي قد عمد إلى ذكر الأيام، فأصبغ على الأيام صفات وأخبار، فقد ورد في الرواية ثمانية عشر عنواناً عنونها الروائي بمفردة يوم، اليوم المغلق، يوم الخنق، يوم التخلي، يوم النسيان، يوم الحلم، يوم العراف، يوم البوق، يوم الجراد... وهذه العناوين تحمل في طياتها الكثير من الدلالات الأسطورية، فهجوم الجراد على الجزيرة وأكله للأخضر واليابس يذكرني بالجراد الذي ذكر في القرآن الكريم، عندما أرسله الله ليعذب فرعون وقومه ويردهم عن عصيانهم « لم تمض سوى ستة أشهر على هجوم الصراصير الشرس على الجزيرة، وتراجعه حتى أطل يوم الأربعاء الخامس والعشرون من شهر الصرخة من سنة الذباب وهو يحمل في سمائه غيوماً كثيفة حجبت الشمس ثم نزلت إلى الأرض فرحة هانئة تسابق نفسها في التهام كل شيء فيه لون أخضر على الجزيرة، حتى لو كان لوحة فنية أو قصيدة شعرية «
وهناك أيام أخرى ذكرها الروائي وأضفى عليها شيئاً من الغرائبية والأسطورة مثل يوم الصراصير، ويوم الموت، ويوم المنصة، ويوم البوق، ويوم الأرض العليا،
المكان الأسطوري:
كثيرة هي العناصر التي يتشكل منها جمالية النص الروائي، ولكن يظل المكان هو العنصر الأبرز والمؤثر في طرح أفكار الكاتب وسبك أحداث نصه الروائي، وذلك لما للمكان من علاقة وصلة قوية تربط الإنسان بهذا العنصر، وقد أختار الروائي د. محمد السماعنة مكاناً أسطورياً ليس له وجود على الكرة الأرضية، فهو محض خيال، خيال غارق في الغرائبية، جزيرة لها قوانين خارجة عن المألوف، يترأسها زعيم يدعى «الهبر « يتمتع بكل أدوات الظلم والجبروت ليحكم هذه الجزيرة، فلا يتحرك أحد إلا بأمره، يفصّل القوانين والأوامر حسب ما تملي عليه نفسه، وما أكثر الأيام والاحتفالات التي سنّها هذا الزعيم على هذه الجزيرة، حتى غلب الطابع الأسطوري بكل معنى الكلمة على هذه الجزيرة.
الجماليات الفنية الأخرى:
لم تكن الأسطورة هي العنصر الوحيد الذي ميّز هذا العمل الأدبي، بل كان هناك العديد من العناصر التي تضافرت لخروج هذا العمل الأدبي الهام، فاللغة التي نسجها الروائي امتازت بالقوة والسلاسة والاختزال والتكثيف، وظف الروائي بعض القصائد التي تناسب محتوى العمل الأدبي في أكثر من مكان في الرواية، وثقافة الروائي العميقة مكنت الروائي من توظيف جمالية التناص في مواقع متعددة من الرواية.
الرواية إضافة نوعية لرفوف المكتبة العربية بتميزها وتفردها سواء بأسلوب السرد الممتع أو الموضوع العام الذي طرحه الروائي.
المصدر: الدستور