تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
صبحي فحماوي «حدائق شائكة» حكايات مليئة بالتناقضات وانحياز غير مباشر للقضية الفلسطينية

أحداثٌ سياسيةٌ متفاقمةٌ وشائكةٌ، عصفت في منطقة جغرافية ذاتَ طبيعة شائكةٍ، وقد أفرزت، تلك الأحداثُ، حيواتٍ معقدةً وشائكةً، لناسٍ جمعتهم الغربة، والألمُ من قبلها، ومن بعدهما اللجوءُ، ما أهّلهم ليكونوا أصاحب حكاياتٍ مليئةٍ بالتناقضات، حكاياتٍ شائكةٍ تماما، تلك هي المرجعية، أو الشرفة، التي يمكننا الإطلالةُ من خلالها على حدائق الروائي صبحي فحماوي الشائكة، التي هي بين أيدينا اليومَ، بوصفها مقترحا روائيا وجماليا ومعرفيا جديدا له.

اتخذ فحماوي من (جبريل عرسال)، المهندس المتخصص في هندسة الحدائق، والشخصية المحورية في الرواية، سببا للدخول إلى عوالم بلدية (إرم ذات العماد)، فالرجل متخصص في إنشاء الحدائق بداية، ورعايتها تاليا، ولكل منزل، بالضرورة، حديقةٌ، ولكل مؤسسة أو شركة تجارية مزدهرة حديقتُها كذلك، وخلف تلك الحدائق ثمّة ناسٌ، وحيثما وجد الناسُ وجدت الحكايا والقصص، وبالضرورة وجدت الروايةُ، فكيف إذا كان هؤلاء الناسِ غير عاديين! لا شكّ أن حكاياتهم وقصصَهم وسردياتهم ستكون غير عادية، وهو ما وجدنا مصداقه في الرواية، وقد أفلح فحماوي في تقديم تلك العوالم كلها للقارئ بأدوات فنية غير عادية، وهذا ما سنؤّشر إلى بعضٍ منه من خلال هذه الورقة.

المحمول السردي في الرواية جاء من خلال سبعة عشر جزءا، حمل كل واحد منها عنوانا وحكاية شائكة غالبا، لتشكل تلك الأجزاء بمجموعها صورة بانورامية لبلدية (إرم..) وعوالمها العلوية تماما، إضافة إلى جانب مقتضب من عوالمها السفلية.

في الجزء الأول من الرواية، وعنوانه (إرم ذات العماد)، يقدم الروائي تمهيدا لطبيعة المكان في الرواية، وإطلالة سريعة على بعض الشخصيات وتكوينهم الاجتماعي، وانتقال زمام السرد من الراوي العليم المطلع على خفايا الأمور إلى الشخصية الرئيسة والمحورية في الرواية، المهندس الزراعي جبريل عرسال، الذي سيشرع فورا بسرد حكايات أهل المدينة، بعد أن تتهيأ له الظروف لدخول بيوت أصحاب تلك الحكايات والاطلاع عن قرب على الجوانب غير الظاهرة للعيان منها، وأولى تلك الحكايات تتمحور حول (رؤوف الحصري)، رئيس مجلس الشيوخ في البلدية، السبعيني، وحكاية زوجته الشابة والجميلة (نائلة الحلبي) وخُلعِها له بعد علاقة غرامية لها مع الفنان الشاب (راغب غلام). وهي حكاية تظهر جانبا من التناقضات الموجودة في المدينة الناشئة، التي تضم خليطا من اللاجئين العرب.

الجزء الثاني من الرواية حمل عنوان (رمزية العلي)، ومن خلاله سيدخل المهندس (جبريل)، وسندخل معه بطبيعة الحال، إلى منزل السيدة (سناء)، (شقيقة رمزية)، وزوجة السيد (أنور الجرار)، وهو رجل أعمال، مشغول دائما بحيث لا يسمح وقته للدخول مع (جبريل) في تفاصيل الحديقة التي سيتم إنشاؤها، لتتولى زوجته (سناء) هذه المهمة، بيد أن المفارقات سرعان ما تبدأ بالظهر بعد أن نعرف طبيعة عمل السيد (أنور)، الذي يعمل مديرا لبنك إسلامي، ومع ذلك تجد زجاجاتِ البيرةَ مرصوفةً في ثلاجة بيته، ومتاحة لضيوفه، لشرب ما يرغبون منها حتى في غيابه. وسيتعرف (جبريل) ونحن كذلك، من خلال مجريات الأحداث على والديّ (أنور) اللذين يعيشان عنده، وبدورهما سيسردان لنا حكاية من قرية عرابة، موطنهما الأصلي في فلسطين قبل التهجير، ليسرد لنا (جبريل) بعد ذلك حكاية والده في الذي كان أضاع في تلك القرية (عرابة) محفظته بعد أن باع قطيع الأغنام خاصته ووضع النقود فيها، والذي راح يبحث عنها في الطرقات مناديا:

«يا سامعين الصوت/ صلوا على النبي/ أولكم محمد/ وثانيكم علي/ وثالثكم فاطمة بنت النبي/ يا مين شاف/ يا مين لقي..».

ثمة في هذا النداء، كما هو واضح، أثر شيعي متجذر في موروثنا الشعبي في بلاد الشام، يشير إلى تلك العلاقة الحميمة التي كانت سائدة بين مختلف الطوائف (والديانات أيضا)، في المنطقة منذ مئات السنين قبل أن تفسدها السياسة والسياسيون، إذ نجد الاحتراب على أشده بين السنة والشيعة هنا وهناك.

الجزء التالي من الرواية حمل عنوان (بنك الرخاء الكبير)، وفيه تنبت حدائق جديدة يقوم بتشييدها (جبريل)، فنتعرف إلى شخصيات جديدة، وتظهر بالضرورة حكايات جديدة شائكة بطبيعة الحال، غير أني سأتوقف عند محطات تظهر جانب من طبيعة الرواية على صعيديّ الشكل والمضمون.

في الرواية لم يترك الروائي فرصة يمكن من خلالها تمرير رأي أو وجهة نظر (أو لنقل: دبوس)، في شأن سياسي أو اقتصادي عالمي إلا واستثمرها خير استثمار، ومن ذلك مثلا، وبينما كان (جبريل) يستعد للتقدم لمناقصة لإنشاء حديقة جديدة لبنك الرخاء، قام بزيارة لمدير العطاءات والمباني في البنك السيد (نظيم يوسف)، وهنا نقرأ في الرواية:

«..أسرعت بزيارة السيد نظيم يوسف، وأنا حسب قناعتي لا أستعمل كلمة (سيد)، مؤنا بأنه ما دام هناك سيد فذلك لأنه متميز عن (غير السيد، وهو العبد)، وما دام يفترض أن عصر العبيد قد انتهى فالجميع إذن أسياد، ولا داعي للقول: السيد فلان والسيدة فلانة، ولكن دهاقنة ميدان اللوتس هم الذين نصحوني باستخدام هذه الكلمة، يبدو أننا نعود في عصر الرأسمالية المتوحشة هذا ثانية إلى عصر العبيد..».

ونلاحظ هنا الإدانة الواضحة والصريحة لأثر الرأسمالية المتوحشة والسياسة الاقتصادية العالمية في المجتمع.

(دبوس) سياسي آخر يقترحه الروائي في هذا الجزء من الرواية، وذلك عند مواجهة (جبريل) لعراقيل كثيرة قبيل سفره إلى هولندا في زيارة عمل، يقول:

«خلال أسبوع من المطاردات بين الدوائر الرسمية والمكاتب المتخصصة للسفر، حصلت على تأشيرة دخول إلى هولندا، وحجزت تذكرة وسافرتُ، وعلى مقعد الطائرة المغادرة شعرت بالغيرة على وطني، ونحن نخضع لشروط استجداءات كثيرة أمام السفارات وتقديم شهادات مهنية وأرصدة حسابات بنكية وشهادات خلو من الأمراض ليسمحوا لنا بالدخول إلى بلادهم، ولزمن قصير ومحدد، على أن ندفع فيه أجور الفنادق خلال أيام السفر المطلوبة، وتذاكر السفر المؤكدة، وذلك قبل التقدم للحصول على تأشيرة الدخول إلى (بلادهم المقدسة)، بينما هم يأتون إلى بلادنا فجأة، ويدفشون أبوابنا الحدودية بأرجلهم، ويدخلون من غير إحم ولا دستور.. كيف تسمح لهم حكوماتنا العربية بذلك ولا تطالبهم بالمعاملة بالمثل حفاظا على كرامة شعوبها؟».

وهنا يتوجه الروائي بالسؤال السابق إلى القارئ (هل أنت تعرف؟ هل أنت تعرفين؟) في محاولة لتوريط القارئ في السرد وجعله شريكا في الرواية وليس مجرد قارئ.

(دبوس) آخر من المهم الإشارة إليه نطالعه في هذا الجزء من الرواية، ذات بعد وطني، فبينا كان يتحدث (جبريل) مع السيدة (عشتار) (وهي سكرتيرة مدير العطاءات في البنك) حديث صديق لصديقة، عن بداية اهتمامه بالنبات، سرعان ما نسمعه يتحدث عن وطنه فلسطين، وأثر الاحتلال الصهيوني على الحجر والبشر، فـ»خلال فترة نمو الشتول، جمعت كمية كبيرة من صفائح زيت الطعام المفرغة، من ذوات العشرين لترا، ((والحديث هنا عن الصفائح ونمو الشتول))، كانت الأمم المتحدة ضدنا توزعها علينا، لتقايضنا وطننا فلسطين المُهدى إلى اليهود، بحفنات من الحبوب والبقول وزيت الكيكوز المعبأ في صفائح.. رحت أجمع الصفائح الفارغة من جوار حاوية النفايات..».

وتتبدى هنا الطريقة التي يستغل في الروائي كل فرصة ممكنة للإطلالة من خلالها على فلسطين من جانب، ولتسجيل موقف واضح وصريح من الاحتلال الصهيوني، ومن كل مَن وقف إلى جانبه، ومثل هذه (الاستغلالات) منتشرة وكثيرة في جنبات الرواية، التي انحازت بشكل صريح، على صعيد المضمون، لقضية العرب الأولى: فلسطين.

وبالقرب من فلسطين، يأتي أحد أجزاء الرواية بعنوان (فارس الغبيري)، والذي يكون شقيقا لـ(صادق)، الصديق القديم لجبريل، وسينجز (جبريل) حديقة منزلية لـ(فارس)، وعن طريقه سينجز حديقة لبيت السفير الفرنسي، ومع كل حديقة ثمة حكاية، وسنتعرف على (سلوى) زوجة (فارس)، وهي سيدة ثرية لا ينقصها شيء، وبدورها ستطلب من فارس أن يتعاون مع شركة أجنبية لغاية شراء ألف بيت بلاستيكي، وهي صفقة يمكن أن يربح (جبريل) من خلالها مبلغا كبيرا، وتريده أن يكون واجهة لها في المنطقة، إضافة إلى الواجهات الأخرى، لكنه سيرفض لاحقا عندما يعرف أن الشركة إسرائيلية.

وعلى هذه الشاكلة تتوالى الحدائق بالنمو، وكذلك الحكايات، في أرجاء المدينة التي تتخذ من الدولار عملة رسمية لها، في إشارة واضحة لعلاقتها بالرأسمالية، وما تفرزه من سلوكيات ومبادئ غير أخلاقية بين الناس.

ولاسم (جبريل عرسال) دلالة تعكس انحياز المؤلف للتراث الكنعاني، الذي ما فتئ يذكر كنعانية المسيح كلما أتاحت له الفرصة بذلك، وفي هذا موقف فكري وسياسي ورؤية تتبنى الكنعانية بوصفها خلاصا للخروج من الأزمات الجمة التي تعصف بالمنطقة منذ مئات السنين.

وتقدم الرواية مقاربة لحال المرأة، جوهرا ومظهرا، في بلادنا وفي بلاد الغرب، كما تقدم مقاربة لأخلاق الناس عموما هنا وهناك، وفيها رؤى فكرية وفلسفية وجودية منتشرة من أرجائها، وقد اتخذت لها مكانا متخيلا ذات مرجعيات واقعية، أما زمنها فراهن ومعيش، وقد جسدت ثقافة كاتبها ومعرفته الإنسانية والمهنية خير تمثيل.

وعلى الرغم من الجوانب الجمالية الكثيرة التي تضمنها الرواية غير أن قارئا انطباعيا لها قد يخرج بجملة من التساؤلات، منها:

في الوقت الذي جاءت فيه الرواية مجزّأة، وقد تمحور كل جزء منها حول شخصية رئيسة، كان يمكن للروائي أن يجعل أحد تلك الشخصيات، أو أكثر، تتولى زمام السرد، الذي ظل بيد (جبريل)، وذلك من باب إتاحة وتوفير زاوية سردية جديدة للرؤية، وهو ما لم يتحقق.

ذكر (جبريل) في موضعين أن له زوجة وأولادا، ولكن القارئ لم يعرف عنهم (الزوجة والأولاد) شيئا، وهذا تجاوز لمكانة المرأة وتهميش لها.

الرواية تمّ تحبيرها (وفي زمن الكيبورد أقول: طباعتها) في زمن قريب، وربما كانت تحوم في فكر صاحبها منذ زمن، لكن تم الانتهاء من طباعتها في زمن قريب، إذ وردت في الرواية لفتة واحدة إلى الـ»كورونا»، (عندما كان المهندس جبريل في تايوان، يقول واصفا مشهد الناس: «كان الدخان الأزرق في الشوارع يغطي فضاء المدينة.. وتجد معظم الأشخاص يقودون الدراجات النارية، ويتحصنون بأقنعة يضعونها على أنوفهم وأفواههم، ليس حماية من الكورونا، ولكن من تلوث البيئة الذي ينفذ إلى رئات رواد السوق، لعلها تحميهم جزئيا من الدخان الأزرق..). وبطبيعة الحال فإن الحياة قبل الكورونا ليست كالحياة خلالها، أو بعدها، غير أن سير أحداث الرواية، التي جرى جزء كبير منها بطبيعة الحال خلال الكورونا، ظل متجاوزا للكورونا وتداعياتها على الصعد كافة.

 

 

 

المصدر: الدستور

26 نوفمبر, 2021 12:45:30 مساء
0