قصص تعيد تشكيلنا بدويّ صامت!
أحمد فؤاد -
لطالما ضاعت معاناة الإنسان - كفرد في المجتمع - وسط ضجيج العالم الذي نعيش فيه. فتبدو معاناته كتفصيلة متناهية الصغَر في بحر صورة ضخمة لا مجال لإدراك أجزائها كونها تُرى كَكُلٍ واحد! فيذهب البعض إلى تهميش تلك التفصيلة أو إلى الحطّ من قَدرِها جهلًا بقيمتها وخصوصيتها.
في وسط هذا الصخب يخجل الإنسان من البوح بمعاناته مهما عَظمت، فيطمس ألمه المرسوم على ملامحه في صمت أخرس، كي يخفيه عن أعين الناس المُتعامية. وينأى بوجعه الذي وُشمت به روحه من أجل أن يقبلوه فرداً بينهم!
وكشرارة تأتي قصص إبراهيم صموئيل صرخة قادمة من أعماق روح مكبوتة، تنشد أن تضُمّ صرخات المظلومين والمُتألّمين في هذا العالم، وتُمزّق كل القيود التي يعاني منها المُهمّشون وكل من أُجبِر على التستّر خلف روحٍ لا تمتّ له بِصِلَة!
تنبش حروف إبراهيم صموئيل الأنيقة أرواحنا بقسوة ناعمة، باحثةً عن نبض غافل فينا يُسمّى «الاهتمام بالآخر». تسحرنا كلماته لتُحيي داخلنا إنسانيتنا الشاردة، فتتحوّل المشاهد العادية التي قد نراها كُل يوم إلى مشاهد استثنائية مُترعة بالأحاسيس رغم أنها غارقة في الألم، لكنه ألم إنسانيّ بشدّة؛ رقيق شفيف يلامس الروح، يساعدنا أن نرى الحياة من زوايا جديدة تمامًا، حتى نشكّ في أنها ليست الحياة التي نحياها رغم تشابهها الشديد مع عالمنا.
رسالة الأديب
مع كل قصة من قصص إبراهيم صموئيل القصيرة، ينتابنا التردد في البدء في قراءتها. نتوجّس مما هو قادم، من مجهول قد تكشفه حروفه داخلنا، من حقيقة مُستترة فينا قد تُعرّيها قصصه، من عُمقٍ جديد للحياة نُبصره من خلال نافذته فيُغيّر فينا أرواحنا إلى الأبد!
بِدَويٍّ صامت تعيد القصص تشكيلنا من جديد، وتعصف بكثير مما ظنناه - بحُكم العادة - أولوية. حينها نفطن إلى حتمية التمسّك بفِطرتنا المُتهدّمة، فنُقرّر بعزم أن نهجر أولويات في حياتنا ونتبنّى أخرى أكثر إنسانية.
إن الأدب معنيّ بتصوير الإنسانية، وقد جاءت قصص إبراهيم صموئيل القصيرة بُرهانًا على ذلك. وعلى أن رسالة الأديب إلى القارئ لا تعتمد على حجم المكتوب من صفحات ضخمة أو حروف لا تنتهي. ولا تعوّل على وخز القُرّاء بمشاهد صادمة مؤلمة عنيفة. إنما يُثبت الكاتب من خلال قصصه أن بهاء الأدب يكمن في بساطته. وأن المشاهد المؤلمة يُمكن أن تُكتب بلغةٍ تفيض بالعذوبة!
مواضيع إنسانية
تتنوع المواضيع الإنسانية بشكل لافت في كُل مجموعة من مجموعاته القصصية، فنرى في مجموعته الأولى «رائحة الخطو الثقيل» هموم المُعتقلين وآلامهم وآلام أهاليهم. ثم تدريجيًا تنضم بقية الأوجاع الإنسانية إلى قصصه في «النحنحات» و«الوعر الأزرق»، ثم تأتي مجموعته القصصية الرائعة «المنزل ذو المدخل الواطئ» في أوجّ إبداع الكاتب الأدبي الإنساني.
يفتح لنا الكاتب مداركنا لنُعاصر حيوات لأشخاص يشاركوننا الحياة، فنرى حياة المكفوفين أو الصُمّ، أو ذوي الاحتياجات الخاصة، أو المحرومين من الإنجاب أو المحبوسين ظُلمًا. ونشهد صراعات داخلية لانكسار أب تكبر ابنته، أو لهفة أم على أطفالها، أو بلادة مُراهقين أو شقاوة أطفال أو حُباً يجمع بين أرواح نقيّة، ويقيناً يُحطَّم على مقصلة الثقة، وندماً مُتأخّراً يُعذّب به الإنسان نفسه أملًا في التطهّر من ذنبه!
في كل قصة يُعيد الكاتب لنا جُزءًا من هويّة إنسانية مفقودة داخلنا. ومع توالي القصص يتلاشى ببطء بعض من توحّشنا المادي. وتُرمّمُ أرواحنا ونُكمل نواقص أنفسنا من أجل أن نعود إلى نُقطة اتزان.
يقولون إن هناك أنواعاً من الأدب تصلح للقراءة في جميع العصور، وأزعم أن هذه القصص من ذاك النوع.
المجموعات القصصية القصيرة لإبراهيم صموئيل تجربة قرائية غاية في الثراء، قلم سلس، لُغة جذلة، أدب راقٍ. قصصٌ مُغلّفة بشكل أدبي أنيق ما إن يُطالعها القارئ حتى يتدفق فيضانها المخفيّ ليُغرق القارئ في انفعالات إنسانية نقيّة، صحيح أنها مليئة بالحُزن إلا أنها تأتي شفيفة هادئة لا تهدف إلى كسر الروح بقدر رغبة الكاتب الحثيثة في خدشها بشروخٍ تحدث في غفلة القراءة. قد لا ننتبه إلى مثل تلك الشروخ بعد أن نترك الكتاب لمُتابعة حياتنا، لكننا سندرك مُتأخرين - في لحظة سكون من صخب الحياة - مدى توغّلها المُتمادي داخلنا، حينها فقط سنفطن إلى عَظَمَة الرسالة الأدبية التي يُقدّمها لنا هذا الكاتب في قصصه.
المصدر: القبس الثقافي