عن «شتيلر» …مواطن ما بعد الحرب
من فور وصوله إلى سويسرا، بلده، يُعتقل الرجل المدوَّن في السجلات باسم ليوبولد شتيلر. السجن الذي سيق إليه كان مريحا، بل أنيقا ما جعل السجين، المنكر لشخصيته بزعمه أنه ليس ذاك الشخص، يسخر من الرفاهية المتاحة له. ما هو متوافر له في سجنه يجعله أكثر رفاهية مما لو أقام في شقّةٍ على نفقته، إضافة إلى حسن الإقامة، أتيح له أن يخرج من السجن لساعات، بل لليال، حيث أمكن له أن يجدّد علاقته بزوجته يوليكا، زاعما على الدوام أنه لم يكن زوجها في السابق، وأنه يبدأ علاقة جديدة مع امرأة لم يكن يعرفها.
حتى أنه صادق المدعّي العام رغم تمنّعه، هو السجين، عن الاستجابة لتحقيقاته، التي كان يجريها ذاك المحقّق بلطف وتهذيب شديدين. كل شيء جميل في السجن، وفي سويسرا أيضا التي يكرهها رغم ذلك، ويكره أهلها بسبب تعلّقهم بما يعتبرونه أصالتهم. إنهم يعيشون في ماضيهم الذي يقدّسونه إلى حدّ أن الحرث «إذا لم يكن يتمّ بالخيل، فإن الخبز لا يمنحهم إيّ شِعر». وهم، لأجل أن يبقى الماضي حاضرا في عيشهم أبقوا بيوتهم كما هي، دون السعي لأي تجديد. وهو يتساءل إلى أيّ مدى يمكن لمعماري سويسري أن يكون جسورا في رؤاه وهو يعيش وسط شعب لا يريد المستقبل، بل الماضي. ما كان ينبغي لهم، حسبه، هو أن يتجرأوا على مواجهة مهام عصرهم بالشجاعة نفسها التي تحلّى بها أسلافهم، «وكل ما عدا ذلك ما هو إلا تقليد وتحنيط».
وقد تعدّت سخريته من سويسرا إلى أمريكا، التي جعلتها نتائج الحرب العالمية الثانية حاضرةَ العالم، بديلا من أوروبا. لم يؤلّف أفكاراً أو نظرياتٍ عن هذا البلد الجديد، شأن ما فعل تجاه بلده، بل اكتفى بوصف مشاهد، ربما كانت الأكثر فكاهة وسخرية بين كل ما كتب في هجاء أمريكا، من ذلك مشهد السيارات في الزحمة، وهذا ما كان صعبا تحويله إلى سخرية مرحة وعميقة لولا قدرة الكاتب الفذّة، وكذلك مشهد الاحتفال الراقص والصاخب الذي يقيمه السود في إحدى كنائسهم. أما عن الحرّية المدّعاة، الحرية الجديدة على مثال البلد الجديد، فيقول: «هناك فرق في درجة العبودية وحسب».
على مدار صفحات الرواية التي نافت على الخمسمئة صفحة، لم يتمكن أحد، لا المحامي المدافع عن بطلنا، ولا المدّعي العام في قضيته، من ثنيه عن الادعاء بأنه ليس ليوبولد شتيلر. أما نحن، قرّاء روايته، فكان علينا أن نظل متردّدين حيال ذلك. بكفاءة نادرة أبقانا الكاتب ماكس فريش في تلك الحيرة بين الشخصيتين المختلفتين، بل بين قطبي الشخصية المنقسمة تجاه ما كانته وما هي ذاهبة إلى ما ستكونه، أو ربما يمكن الظنّ بأن صاحب الشخصيتين لا يريدهما كليهما. ذاك أن شتيلر مقفل على ماضيه، ولا يجد شيئا يأمله من حاضره.
ثم إنه، في ما خصّ ماضيه وحده، كان منقسما إلى أكثر من شخصية واحدة، فقد كان سكّيرا وساعيا في مكافحة الفاشية، وزوجا نصف ناجح ونصف فاشل، وهذا ما يجعل عودته إلى ماضيه الشخصي محالا، إذ إلى أي جانب من ماضيه يذهب.
وإذ أُرجع في صفحات الرواية الأخيرة إلى ذلك الماضي، الذي لم يبق مما يمثّله إلا زوجته، فبالاستدراج من المدّعي العام الذي أصبح صديقه، وبالتهديد البوليسي المازج بين الفكاهة ورواية المطاردات الجاريين حول المبنى الذي هو فيه.
ظاهريا لقد عاد شتيلر إلى نفسه، أو إلى زوجته الفاتنة، لكن بعد أن تحطّمت كل التماثيل التي كان نحتها في محترفه. كان راضيا بالبيت الزراعي نصف المهدّم الذي سيعيش فيه، مرة أخرى، مع زوجته الفاتنة، وبدلا من أن يعود إلى فنّه (النحت) راح يصنع أواني فخارية لم تكن بالجودة التي يكفيه عائدها لعيشهما.
تنتهي الرواية إلى أن تكون مأساوية على طريقة الروايات الرومنطيقية حيث يصيب المرض القديم، السلّ على الأرجح، يوليكا المرأة الأجمل كما يراها الجميع، بمن فيهم شتيلر نفسه. من تيارات روائية وفنية كثيرة صنع ماكس فيشر روايته الضخمة، التي رغم ذلك، كانت تسعى إلى الإضاءة على جديد لم يُرَ تماما بعد في عالم ما بعد الحرب. الغرام، الزواج والقرابة التي يمثّلها شقيق شتيلر في الرواية، وكذلك الصداقة، والخيانة، إلخ، كلّها تبدو وقد انزاحت عن التحديدات المعرّفة بها. السخرية التي بدأت بها الرواية، والتي قامت على المُفارق وغير العادي، كأن يكون السجن أفضل من البيت، وأن يكون المدّعي العام أرأف بالمحكوم من محاميه، وأن ترسم الشخصيات من خارج مرجعياتها التقليدية…
وأن يكون ذلك معزّزا بأفكار نابذة لما قامت عليه قناعات البشر ومعتقداتهم، لم تفلح كلها في جعل العالم لعبة يُتلهّى بها. لقد اختتمت الرواية بحزن وموت يناقضان كليا تلك السخرية التي كانت لبطلها في ما سبق من الصفحات.
دون أحداث دراماتيكية، ودون وقائع فعلية حيث ماضي شتيلر، بطل الرواية، إما متوّهم أو مشكوك بحقيقيته، أمكن للروائي أن يكتب كل هذه الصفحات دون أن يدفع قارئه إلى الملل. يرجع السبب في ذلك، ربما، إلى الملاحظات المبدعة، والكشف العميق لمباعث السلوك البشري، اجتماعيا وفرديا، كما للسرد المسرع حتى ليكاد يسبق نهم القارئ الخائف دوما في قراءاته من ركود السرد أو تباطئه.
ولكي يمكن كتابة رواية بهذا الاتساع، أدخل الكاتب ما يشبه روايات إضافية على روايته الأم، بأن أعطى الشخصيات الثانوية ما يُعطى عادة لبطل الرواية الفرد. هكذا قرأنا، في مجرى حياة شتيلر وهواجسه وأفكاره، تفاصيل حيوات أخرى لأشخاص آخرين على شكل روايات قصيرة، أدخلت في النصّ، كما سرد حكايات، شبيهة بالحكايات الخرافية لم يكن من لزوم لها، وهذا ما جعل المستمع يردّ على راويها بقوله: «وما علاقة هذا بموضوعنا؟»
رواية «شتيلر» لماكس فريس، التي يعود صدورها إلى سنة 1954 نقلها عن الألمانية سمير غريس لداري «سرد» و«ممدوح عنوان للنشر» في 534 صفحة لسنة 2021
المصدر:القدس العربي