حرائق حلم.. حضور الدال وغياب المدلول
الإمساك بالوجود العيني بأشيائه وظواهره المتكثرة هو مسعى الإنسان منذ محاولاته الأولى لعقلنة الوجود. وقد أحرز الوعي الإنساني قفزة نوعية من خلال استعماله اللغة، والتي هي أهم منجز حققه الإنسان وميزه عن غيره من أفراد المملكة الحيوانية، ما حدا بأرسطو للقول بأن الإنسان هو حيوان ناطق. لقد مكنت اللغة الإنسان من تحويل مفردات الوجود إلى رموز لغوية تجريدية وتخزينها في عقله، حتى أصبح العقل الإنساني مكافئا للوجود. لقد أدرك الألسنيون هذه الحقيقة وعبروا عنها بمقولتهم الشهيرة «حضور الدال وغياب المدلول»، أي حضور الرمز اللغوي وصورته الذهنية في العقل وغياب الشيء المادي الذي استعضنا عنه بالرمز.
في مجموعتها القصصية «حرائق حلم» توظف انتصار عباس هذه الرمزية لمساعدة شخوصها على الإمساك بمفردات وجودهم وتضمينها في وعيهم ولاوعيهم لتصبح عصية على الفقدان. فإذا كان الدال عند الألسنيين هو دال لغوي صرف، فإن الدال عند انتصار عباس هو شيء من أشياء العالم، ولكنه ليس شيئا ككل الأشياء، فهو شيء تكمن قيمته فيما يرمز أو يحيل إليه، وكأنه شيفرة تنفتح على عالم لامتناهي.
في النص الأول «عطر الجوري» نصادف أول الدوال وأجملها، الوردة. فالوردة في هذا النص مع جمالها وقدرتها على الكينونة بذاتها بوصفها تحمل كل مقومات الجمال التي تداعب جل الحواس من نظر وشم وذوق ولمس ، إلا أنها هنا لا تُطلب لذاتها، بل تتحول إلى مجرد دال أو رمز أو شيفرة تفتح على عالم الأب اللامتناهي. الساردة في هذا النص تتشبث بالوردة لأنها مرتبطة في وعيها بالأب المغرم بالورود، والذي كان «يجمع الياسمين المتساقط صباحا، يغمره بالماء، يوقظ الرائحة، يقطف الورود ذات العطر الفواح، يعد شراب الورد ومعقود الورد، وكان ماهرا في ذلك، أما الورود الحمراء والبيضاء فلا يقطفها، كان يقول: إنها خلقت لغايات أكثر نبلا وجمالا»(ص7). يغيب الأب وتبقى ذكراه مجسدة بوردتين، حمراء وبيضاء. تفاجأ الساردة ذات صباح بوردتين على شباكها، حمراء وبيضاء. وردتان دالتان بلا مواربة على الأب الغائب. حضر الدال، فهل يحضر المدلول؟ وأنى للأب أن يعود وقد غيبه الموت !. تضطرب لعبة الدلالة في عقل الساردة ووجدانها ، وتصطرع المشاعر حين تلمح رجلا في حديقة المنزل كأنه هو، ولكنه ليس هو. تقول الساردة: « بلحظة شعرت أنني سأركض إليه وأرتمي في أحضانه، لكن شيئا ما لست أدريه منعني، وقد تذكرت أن أبي توفي منذ زمن» (ص10). في هذا المشهد الغرائبي نعاين قوة الدال وقدرته على الاستحواذ. ونعاين أيضا اضطراب العلاقة بين الدال والمدلول. وهو مشهد يستحق الغوص بتفاصيله من أجل استكناه العلاقة المركبة التي تربط الدوال بمدلولاتها، وما الذي يقويها، وما الذي يوهنها. وبالرغم من يقين الساردة أن هذا الرجل ليس أباها، إلا أن استحضاره لكل الدوال التي تقترن بأبيها يجعلها غير قادرة على تجاوز الشعور الأبوي، تقول:»إحساس غريب استيقظ في دواخلي، صدى صوته يتردد في دهاليز روحي، أسمعه وهو يروح ويجيء، أو عله سكن المنزل هو أيضا تاركا وردتين نائمتين على أصيص النافذة، واحدة بيضاء، وأخرى حمراء، بزغت بينهما شقوق النور»(ص18)
في النص الثاني «عويل الخواتم»، نعاين توظيفا مبدعا لأحد الرموز الموغلة في القدم في التاريخ الإنساني، وهو الخاتم. والخاتم دالٌخصبٌ يحيل لدوال متعددة لا حصر لها. ولكنانتصار عباس توظف هذا الرمز الدال من أجل استحضار شخوص بعينهم، حيث يحيل كل خاتم إلى شخص ما. تبرز في هذا النص فكرة الاستحواذ في أوضح صورها، حيث يحاول الشخوص الاستحواذ على الناس من خلال الاستحواذ على خواتمهم. في بداية النص نعاين أحد الشخوص وهو شاب يبحث في محلات الصاغة عن خاتم يشبه خاتم أبيه، لكي يكون بمقدوره استحضار صورة أبيه الملهمة من خلال الخاتم، يجد الخاتم بعد رحلة بحث استنفذت قواه ويضعه في إصبعها مطمئنا. هذه ليست نهاية لعبة الدال والمدلول في هذا النص. ففي أثناء بحثه المضني عن خاتم يشبه خاتم أبيه، يصادف في أحد المحلات خاتما نسائيا يأسر وجدانه ويقرر شراءه لصديقته في العمل التي يكن لها مشاعر غامضة، والتي بدورها تبادله نفس المشاعر الغامضة. وكان له ما أراد ، حيث ينتهز فرصة غياب زملائه في العمل ليستفرد بالفتاة ويهديها الخاتم الذي أحب رؤيته في إصبعها. يقع الشاب في حيرة من أمره حين لا يشاهد الخاتم في إصبعها لأيام متوالية. المشهد الأخير في النص يتابع الفتاة وهي تخرج الخاتم من حقيبتها وتفتح صندوقا مكتظا بالخواتم وتهمس :»هذا خاتم عماد، وهذا قاسم، ، علي أحمد، عدنان، عمر، خلدون، محمد، مروان، مازن، ، وبهذا تكتمل المئة،تغلق العلبة، تهتز الخواتم، لشدة انفعالها، وتسقط، تنتشر الخواتم، على الأرض، تفقس خواتم جديدة، تهرب من الغرفة، وتغلق الباب»(ص26). هذا المشهد الختامي في النص منفتح على دلالات متعددة، ولكن ثمة دلالة في غاية الخصب هي التي تؤشر على تمرد الوجود الإنساني على الاستحواذ. فهذه الفتاة التي استحوذت على مئة خاتم، كل خاتم منها يشير إلى شاب، واطمأنت إلى قدرتها، تفاجأ بأن هذه الخواتم تثور عليها وتتناثر في أرجاء الغرفة، وكأن الوجود الإنساني عصي على الإمساك.
في نص أحلام ستار، نعاين دالا جديدا ورمزا جديدا . إنه كأس الكركديه. يتضح من خلال السرد، أن المرأة التي فقدت زوجها في حادث سير، تواصل طقسها اليومي الذي اعتادت عليه كل يوم، وهو إعداد كأس كركديه لزوجها . وبالرغم من غياب الزوج إلا أنها تواظب على هذا الطقس اليوم لكي توهم نفسها أن الزوج لم يغب. كانت كل يوم تعود للكأس لتجده فارغا، مما عزز لديها الاعتقاد بأنه لم يغب. سنوات وسنوات والأطفال يتسلقون النافذة ويكرعون كأس الكركديه الذي كانت تضعه له قرب النافذة. التوظيف الرمزي هنا في غاية الحميمية، حيث كأس الكركديه يرمز لجانب حميم من جوانب العلاقة بين المرأة وزوجها. اللعبة لا تتوقف، هي تعدّ الكركديه في طقس يومي، والأطفال المشاكسون يتسلقون النافذة ويفرغون الكأس، والدال ينوب عن المدلول.
هل أرادت انتصار عباس عبر نصوصها السابقة الإيحاء بأن الإنسان يستطيع الاكتفاء بالرمز بالرغم من فقدان ما يرمز له؟ أعتقد أنها تركت الباب مفتوحا أمام التأويل. فثمة علامات داخل النصوص تشير إلى انصياع الوجود للترميز، وثمة علامات تشير إلى تمرد الوجود على الترميز. أرى أن تعدد الدلالات كان نقطة قوة في النصوص، فالنص الواحدي الدلالة لم يعد يتوافق مع التوجهات الراهنة في الأدب.
المصدر: الدستور