النماذج الغنائية العربية الحالمة
صالح غزال العنزي -
تعودنا أيام «ربيع العمر» على بعض المفردات الصريحة للصفات العربية الحالمة المشبعة بالغناء، اللون الأسمر والدماء التي تروي الأرض وملاعب الصبا في الجبل والوادي والكثيب والنهر والأرض المشبعة بالملح أو العطش، من قال إن الإنسان وحده يتأثر بالتضاريس والأنواء، أعرف حالات لحالمين عرب تاهوا في مساحات الأرض فأثبتوا كرويتها دون أن يعوا إنجازهم، فغيروا معالم الجبال والأودية بغنائهم أو بمشاعر الحب وذلك أضعف العشق... أنا شخصياً رأيت الجغرافيا تتمايل حين يلقي الفاجومي أو النواب شعرهما بجرأة.
المخزون الغنائي
حين ينفصل المغني عن كل تبعية سياسية أو يبقى خارج صندوق الساسة فإنه يزرع الوادي رياحين وصدقاً، لكنه يعجز عن كل ذلك حين يتحول إلى فم للإيجار، وقد يكون مخزوني الغنائي قديماً كقدم رمال جعيدان والطيور التي كانت تهيم عشقاً بـ«القلمة» التي كانت سبيلاً للمواشي والهوائم في مدخل «اللطيفية»، إلا أني أشعر أن آخر عهود الغناء كانت في تلك الأيام التي نتداولها الآن.
لم يكن أبو نورة إلا مردداً لعشق نثره (دايم السيف)على ظهر عسير فسارت به عبقات نسيم ليلي باتجاه طويق:
أنورت سودة عسير بطلعتك
وازهرت من وطيتك خدّانها
اجتمع ورد الجنوب وبسمتك
والهوى هيمان في وديانها
يا خشيف الريم نجد روضتك
وش جرى عقبي على ريضانها
ولأن التحرر من القيود في هذه الأرض الممتدة من المحيط إلى الخليج أو من جبال الأطلس إلى جبال زاغروس لا يكون إلا في حالتين لا ثالث لهما:
إما أن يكون المغني مغموراً لم يتم تبنيه جهلاً له أو زهداً به. وإما أن يكون قادراً أن يقول لا، وهو أمر نادر، أو هارباً بلائه إلى خارج الحدود، وهو الأمر الأشهر.
رحلة الضياع
ولعل الكثير من الحكومات في فترة المد القومي كانت تشرك المواطن معها في رحلة الضياع، فكان المغني يتلاعب بصوته وينثر كلماته نحو المسامع بصدق بعد أن يصدّق كذبة مبتكرة بأنها قضية وطن، فيعيش وهماً أنه صاحب مشروع، والحكومة مجرد شريك له ما دامت لم تكشر عن أنيابها.
دعك مما كان يردده عبدالحليم والست وفريد، فهؤلاء كانوا مطربين برتبة «مارشال» وآلات جميلة يجري استخدامها في تفجير شعور كاذب، ولكن نقّل فؤادك بين أغادير والبصرة وشاطئ الفنطاس، فستجد مغنين يملكون القليل من الوعي وجبالاً من العواطف التي تسوق الكلمات كما يسوق حادي العيس عيسه.
غبار الزمن
يقال أن بدر شاكر السياب كان أقل من بسيط في سلوكه الاجتماعي وكلماته المستخدمة في ساعات الحياة العادية، لكنه ينفجر فخامة على منصة الشعر مساءً فيأتي بما لا يؤتى ويقول ما يعجز أن يقوله قائل، وحين كتب غريب على الخليج لم يكن يبكي حالة عيش لحظي كانت فخمةً بلا شك وهي مشبعة بالألم، لكنه اشتاق ملاعب الطفولة وأراد الاستسلام للموت الذي استشعر قربه في بيت فيه من غبار الزمن الذي يخفي ذكريات الطفولة ما لو مُسح «بفوطةٍ» مبللة بابتسامات قديمة في «جيكور» لظهرت الأحلام القديمة حلماً حلماً، ومثله كان فؤاد سالم متعباً يلهث نحو ثغر الجنوب الذي حرمته السلطة منه، فأطلق الحرية لكلمات السياب، دون أن يتقيد بالجغرافيا التي قسا عليها سوط العسس:
«وعلى الرمال، على الخليج
جلس الغريب، يسرّح البصر المحيّر في الخليج
ويهدّ أعمدة الضياء
بما يصعّد من نشيج
أعلى من العبّاب يهدر رغوه
ومن الضجيج»
البكائيات القديمة
وفي ثمانينيات القرن الماضي تخلت بعض ثوابت العروبة عن عاطفتها واحتفظت ببعض فخامتها الجافة قبل أن تتعرى أمام احتلال الكويت، ويتبين الخيط الأبيض من الأسود، فكفر بها من كفر، واحتفظ بإيمانه بها من احتفظ، فكان قبضه على عروبته كالقابض على الجمر.
وكان الغناء ذو الروائح المشبعة بالوطن والجغرافيا والدماء المستباحة أو المباحة ينقسم إلى نوعين، أحدهما يتغنى بماض تليد ليستدر الدموع القديمة ما أمكن، وآخر يغني لنور طفيف يتخلل فتحات السياج الخارجي لفيافي الوطن الكئيب.
حاول عبدالوهاب الدوكالي أن ينعش البكائيات القديمة المليئة بالصدق والبلاهة:
في مونترناس سال دم أحمر
وبكت طيور الافجر..
ودم خويا يا بويا
انو عربي ولونه أسمر
شحال يقدني نحكي ونعيد
وفي كل مرة يموت فجر جديد
تغيب القمرة.. يتأجل العيد
الحرية والقيود
وحاول مارسيل خليفة أن يستفيد من حريته وتحرره من قيود السلطة (لم تكن في عنقه بيعة)، فغنى لبصيص الأمل الذي اخترق الجدران. ولعل تلك الرصاصات التي كانت تنطلق من تلك الأغاني في تلك السنين لم تعد تنطلق، حيث لم يعد بمقدار أحد أن يمنع أو يسمح، وإنما تهدر وترعد دون أن يسمعها أحد، فمن يريد أن يغني يمكنه أن يغني دون أن تستطيع منعه، لكن المطربين اختفوا من فضاء الغناء واحتلتها «روبوتات» تردد ألحاناً «رقمية» استبدلت بالدو ري مي فا الون تو ثري، ورغم كل الفضاء الرقمي المفتوح الذي باستطاعة طفل أن يتلاعب بكل العسس لو توفرت النية والاندفاعة (حيث يُشبّه صديقي الخبير الإلكتروني اللعبة باللص القديم الذي يجيد التسلق على المواسير والقفر بين السطوح دون أن يراه العسس)، لكن الرغبة والموهبة لم تعد موجودة بعد أن تراجع الولاء للجغرافيا كثيراً، وأصبحت المشاعر الصادقة ضحيةً للعولمة، وأصبح الإنسان لا يسمع شيئاً، بل يجري حشو اذنه بهيروغليفيات كتبها الجن.
المصدر: القبس الثقافي