تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
إبراهيم خليل قراءة في كتاب «مفاهيم نقدية»

بعد إصدارات النّاقد د. إبراهيم خليل: الذاكرة والمتخيّل في الخطاب السردي 2019، ومحمود السمرة والنقد الأدبي 2019، وبين الرّواية والسيرة في ضوء نظرية الأدب 2020، وفي البلاغة الجديدة وقضايا أخرى 2021، وفدوى طوقان وآخرون 2021، وشاعران من فلسطين البرغوثي وعز الدّين 2021، والسّرد وظواهره في القصة العربية القصيرة 2021، وألفاظ الألوان ودلالاتها عند العرب دراسة معجمية دلالية 2021، ولغويات 2021، يصدر له كتابٌ جديدٌ بعنوان «مفاهيمٌ نقديّة» عن دار الخليج للنّشر والتّوزيع في عمّان 2021، يقع في 137 صفحةً من القطع المتوسّط تضمُّ في ثناياها فهرسًا ومقدّمةً للكتاب وخمس عشرة مقالةً نقديّةً متعددةً في موضوعاتها، ومختلفةً في وجهات نظرها بين رأيٍ مؤيّدٍ وآخر معارض، متبوعةً بعدد كبير من الدّراسات المنشورة للمؤلف.


والمؤلف في عنونته لكتابه «مفاهيم نقديّة» يحيل القارئ من العتبة الأولى والالتقاء الأول مع النّص إلى توقع أن يلقى في هذا العمل عددًا من المسائل النّقديّة التي من شأنها أن توضَّح وتُقدَّم في سياقه السّليم والصّحيح، وفي تصنيف الكتاب إلى أنه يحتوي على «قضايا ومقالات» بعنوانٍ فرعيٍّ جاء بعد عنوانه الكبير يجعلنا ندرك ما فيه من تعدّدٍ للمسائل النّقديّة التي جاءت في سياق مقالاتٍ متنوعةٍ من شأنها أن تناقشها معتمدةً على رؤيةٍ خاصة ودراسات متعددة ووجهات نظرٍ مختلفةٍ لا تنفصل عن الحقل النّقدي، فكانت المقدمة التي كتبها المؤلف خير دليلٍ على تلك الرؤية التي شكلها العنوان للقارئ؛ إذ يؤكد من اللحظة الأولى أنّنا إزاء كتابٍ يناقش الشّائع من المفاهيم النّقدية ويحاول توضيحها «يأتي هذا الكتاب ليلقي الضّوء على بعض المفاهيم النّقدية والأدبية الشائعة فيحاول توضيحها أو مناقشتها منااقشةً تبين بعدها عن الواقع أو حاجتها الماسّة لإعادة النّظر».ص7


وتسترعي هذه المقدّمة وما فيها من إشراقاتٍ حول القضايا المطروحة في الكتاب النّظرَ في عناوين المقالات بدءًا من نظريّة النّظم، ثمّ البلاغة والحجاج، وبلاغتنا وبلاغة الآخر، وأدب المقامات، والأدب المقارن، والتّناص والتّلاص، والمثاقفة بين الانتحال والتّأثر، ومسألة التّجنيس في التّراث، والفرق بين النّص والخطاب، ومفهوم السّرد الروائي، والسّرد والتاريخ، والنّظريّة النّقديّة العابرة للتخصصات، وفي هذه الموضوعات التي تشير عناوينها إلى التّقاطع الواضح مع ما تضمّنه عنوان الكتاب من إشاراتٌ لأبرز القضايا النّقدية التي شاعت بين النّاس ونوقشت من قبل الدّارسين، فإما وقعت في لبسٍ أو جاءت حصيلة محاولات وجهودٍ قيّمة تسعى إلى تبيانها وتصحيح مفهومها. وفي ضوء ذلك يحاول د.إبراهيم خليل أن يعدل المفاهيم ويوجهها نحو ما هو صحيح وفق منهجٍ يعرض فيه المسألة والإشكالية التي تحيط بها، ثم يقف عند واحدةٍ من الدّراسات التي تتناولتها ويقدّم نبذةً عنها وعن مؤلفها وأبرز ما وقف عنده في دراسته، ليوجّه بعد ذلك نقده لتلك الدّراسة نقدًا موضوعيًّا يذكر فيه المحاسن والمثالب، ويحدد المنزلة التي يتبوأها العمل.


فيعرض - مثلًا- مسألة النّظم عند النّقاد، وتطوّراستخدامها حتّى صارت لفظةً عند الباقلاني الذي وظّفها في استخدامه للنّظم في القرآن الكريم وإعجازه الذي جعله سببًا ينماز فيه عن كلام البشر، وتلاه القاضي عبد الجبّار صاحب المغني، ثم يقف عند التعريف بالجرجاني وعلمه وآثاره وقفةً عامةً. ينتقل من خلالها إلى الحديث عن دلائل الإعجاز في علم المعاني التي رأى فيها ضرورة النّظر إلى القرآن الكريم، وتأمل النّظم فيه دون الفصل بين اللفظ والمعنى، وإنما يكون المعنى باللفظ الذي يفصح عنه، فأشار إلى تنظيم الكلم واتّساقه مع النحو ومعانيه وقواعده وسياق القول حيث الانسجام والالتئام، فالجرجاني يضع نظرية النّظم موضعًا منهجيًّا مستخلِصًا أنّ إعجاز القرآن في نظمه، ومعانيه، يعني إعجازه في الأسلوب الذي لا يمكن تقليده، ويؤكد أن أسرار البيان لا تكمن في ثنائيّة اللفظ والمعنى، وإنما يتجاوزها ويتجاوز مدارس النّقد الحديث إلى الصّورة، مدركًا في ذلك الطاقة التعبيرية الكامنة في اللغة، ويعرض المقال لرأي الضامن الذي درس موقف الجرجاني من مسألة السرقات الشعرية، فنفاها مؤكّدًا أنّ المأخوذ يختلف عن الآخِذ باختلاف ملامح النّظم وقواعد التّرتيب.


ويناقش الكتابُ أيضًا بحثًا للدكتور محمد عصفور بعنوان «البلاغة العربية بين القديم والحديث» في ضوء تناول البلاغة بين ثقافتين، ويعرض رؤيته كاملةً متوصّلًا إلى نتيجةٍ مفادها أن البحث من خلال تعدد الثقافات يفضي إلى الوصول إلى نتائج مسبقة قد تقوم على قرائن وقد تخلو منها، كما أنّ عصفور وازن بين نماذج شعريّة قديمة وحديثة أخلّت في دراسته جاعلًا من البلاغة العربية محصورةً في جملة أو بيت أو شذرة.


وتدرُسُ واحدةٌ من المقالات أدب المقامة بما تعرضت له من تهميشٍ، ومحاولاتٍ في إعادة إحيائها من خلال تأليف الدّكتور صلاح جرار لكتابه الموسوم بعنوان «شحذ الأفهام بأحاديث المنام» الذي تشابه مع المقامة من عدّة وجوهٍ تمثّلت في اختيار المؤلف للعناوين، والسّند، ورواية ما يقع من أحداث لنموذج إنساني متكرر، واختتام المقامة بموعظةٍ أو حكمة، مشيرًا إلى أنّ الكتاب زاخرٌ بالصّنعة، والمحسّنات البديعيّة، عارضًا عض المآخذ التي تنفي عنه صفة المقامات فهو من ناحية البطل لا يتخفّى ولا يتنكّر، ومن ناحية أخرى يخلو من موضوع الكدية والاحتيال.


ويتضمّنُ الكتاب وقفةً إزاءَ مفهوم السّرد الروائي بمناقشته مُنجَز الألمانية مونيكا فلودرنك «مدخل إلى علم السّرد» الذي يشرح نظريّات علم السّرد فيستمدُّ قيمته من شموله، وموقع المؤلفة المتخصّصة في السّرديات، وما تقدّمه من جهدٍ متواصلٍ بلا انقطاع، فتفرّق بين السّرد وفعل السرد، وتهتم اهتماما بمسألة الرّاوي في السّرود ومدى وعيه بسياق الأحداث والمتواليات السّردية، وتقف عند مسألة التّأليف وإشكالية الضمائر وزمن الخطاب السّردي، والفروق بين زمن القصة وزمن الملفوظ السّردي، وترتيب الوقائع المحكية ترتيبًا يتوافق مع الزّمن، وكذلك مسألة التّبئير والمظهر الخارجي للسرد. وكلّه يسوقنا إلى الحديث عن التّرتيب الذي يثير التشويق في نفس القارئ، وكذلك دراسة اللغة ودورها الوظيفي من خلال انتقال الكاتبة من التنظير إلى التطبيق انتقالًا جيّدًا يُحسب لها ويضفي على الكتاب ما يجعل منه كتابا يشد القارئ شدًا، ويصقل قدرات الطلبة الدارسين لفنون السرد الحديث.


ويتناول الكتاب مفهوم التّناص والتوجه نحو السّرقات الشّعرية من خلال مناقشة كتابٍ ترجمهُ السّوري محمد خير البقاعي لعددٍ من النقّاد الفرنسيين عنوانه «دراساتٌ في النّص والتناصية» يثير فيه مسألة الدال «الأثر» والمدلول «النّص» التي يؤكد أولويّة البحث عن العلامة وعن الشيء القابل للتأويل، والعناية بالقارئ الذي يُنتج الدّلالة الأدبية، واعتبار النّص كيانًا لا ينتسب لأبٍ معيّنٍ حسب رؤية مارك أنجينو، وتعدد النّص وفق مقال جيرار جينيت «طروس الأدب على الأدب» الذي يشير إلى أنّ النّص يحاور نصوصًا أخرى، فهو كتابٌ ينتظمه النّص لا الأثر، ويزيل الغموض عن التناصية، ويدعو إلى تصحيح النّظرة نحو مفهوم التناص، شاكرًا النّاقدُ للمترجم لغته القويّة وجهده المتمثّل في الهوامش التي تحيل القارئ إلى أبحاثٍ أخرى.


ويعرض المؤلف أيضًا لدراسة أحمد الخطيب «الحساسية الجديدة قراءات في القصة القصيرة» ويتجه نحوالوقوف عند فصلٍ واحدٍ يتناول ريادة جمال أبي حمدان للتجريب في القصة القصيرة، وفضله على القصة التّجريبية واعتماده على المرجعيات الثقافية في اختيار شخوصه كما صحح الخطيب ذلك، ثم يسلط الضوء على منهج أبي حمدان في توظيف الشخصيات والمرجعيات من خلال كسر توقع القارئ واعتماده على التقنيات السردية الحديثة من حلمٍ، وكابوسٍ، ومونولوج، وتيار الوعي، والمفارقة الساخرة. ويشير إلى ما غلب على قصصه من شعر، كما أنه يأخذ على المؤلف ما أدلاه من معلوماتٍ كان ينبغي أن يتحقق من صحتها، وصمته عن أحداثٍ وقعت في عقدين ونيف، وغضه النّظر عما تواتر لدى من كتبوا عن قصص أبي حمدان من إشاراتٍ توازن بين أسلوبه وأسلوب زكريا تامر، ثم يدفعنا المقال إلى الفصل التالي الذي تناول فيه قصص هند أبو الشعر وما عرضه الخطيب من نماذج نسائية وردت في أعمالها، ويتتبع أمين فارس ملحس في قصصه التقليدية وفشله في رسم ملامح شخصياته. ويؤكد النّاقد على محاولات المؤلف الجادة في تجاوز القوالب المتحجرة، ولكنه في اقتصاره على مفهوم الحساسية الجديدة في العنوان لم يكن دقيقا، فإنها لا تظهر عنده إلا في القليل النادر من القصص.


كما يوضّح الكتاب مسألة المثاقفة من خلال دراسة لحاتم الصكر «تنصيص الآخر: في المثاقفة الشعرية والمنهج ونقد النقد» التي ينظر فيها إلى المؤثر والتأثير والأثر، ويرى أن الدراسة المقارنة تقوم على المستوى المقارني والأيديولوجي والفني، ويقف عند سرقات أدونيس بصفتها انتحالًا لا تناصًّا، ويدعو إلى عدم الخلط بين السرقات والتأثر. ويرى أن المثاقفة الشعرية لا تقوم على التّأثر فحسب، وإنما أيضًا على التّوازي، ويقف كذلك عند تنوع المؤثر وضروب التأثر النّاجمة عنه، والاستشراق وارتباكات الهوية، فهو كتابٌ شاملٌ للظواهر قيد الدراسة ويجيب عن أسئلةٍ كثيرةٍ يتطلبها موضوع المثاقفة والمقارنة والمنهج النّقدي.


ويُختتم الكتاب بمناقشةٍ لمسألة التّجنيس في تراثنا من خلال ما نقّب عنه الدكتور فاضل عبود التميمي الذي رجع إلى مجموعةٍ من الكتب بما فيها من بوادر التجنيس في الأدب، ثمّ المحاولات الحديثة عند البلغاء والنقاد، ليؤكد المقال على أن الخطاب النقدي القديم، سواء أكان بلاغيًّا أم غير بلاغي، فيه أفكارٌ متفرّقةٌ تحاول الإجابة عن سؤال التّجنيس، شعرًا ونثرًا، مؤكّدًا على ما كان لدى القدماء من حرصٍ على التنميط الأدبي.


وصفوة القول أنّ هذا المنجز يقدّم نقاشاتٍ متعددةً حول مفاهيم نقدية مختلفة من خلال تناوله في كلِّ مقالٍ لكتابٍ معين يصبُّ ذي صلة بمفهوم نقدي، فيعرضه ويناقشه ويوافق الفكرة أويخالفها في سبيل تقديم المفهوم تقديمًا سليمًا لا يشوبه الخطأ، ليُّعدَّ بذلك دراسةً شاملةً تجمع منحنياتٍ متنوعةً بين دفّتي كتاب، وتسمح للقارئ أن يطّلع على تلك المقالات التي تشترك في منبعها، فيقرأها ويتعرف على ما ورد فيها، ويوسّع مداركه لتكون مرجعًا للمهتمين، لا سيما طلبة الدّراسات العليا ممن يرغبون في الاطلاع على أعمالٍ ذات صلةٍ في النّقد.

 

 

 

 

المصدر: الدستور 

16 يناير, 2022 10:41:47 صباحا
0