«على أعتاب الثمانين» .. سرد الذات حد الفضح
تراوح أساليب كتابة السيرة الذاتية بين معتمد على ضمير المتكلم "أنا"، أو مفضل لضمير المتكلم المعظم لنفسه "نحن"، وثالث يختار تقديم تضاريس مسار حياته للقراء، كأنما يرويها عن الغير، مستعملا ضمير الغائب "هو". يلجأ الكتاب عادة إلى هذه المراوغة، متى كانت السيرة الذاتية حبلى بحقائق صادمة، عن السارد نفسه أو من تولى ذكرهم من الأغيار، فيصير الكاتب، في هذه الحالة، مجرد راو أو سارد عن "مجهول" ليس سوى المؤلف نفسه.
تحتفظ الخزانة العربية بمؤلفات من صنف السير، تمرد على هذا الاتجاه العام في الكتابة، بمؤلفات امتلك أصحابها الجرأة على قول كل شيء بأسلوب كاشف ومباشر، من قبيل السيرة الذاتية لعبدالرحمن بدوي المفكر المصري، "سيرة حياتي" في جزأين، وقبله رواية "الخبز الحافي" التي تبقى سيرة ذاتية لمحمد شكري الكاتب المغربي، رغم تقديمها في قالب رواية.
اختار جامع بنيدير الكاتب المغربي، رئيس مركز أكلو للبحث والتوثيق، إضافة اسمه إلى هذه القائمة، بسيرة ذاتية مباشرة وصريحة وكاشفة، حد الفضح أحيانا، حملت عنوان "على أعتاب الثمانين" (2021). رغم وعيه بصعوبة هذا الاختيار في الكتابة، فقد أعلن أن "ما سأورده من تفاصيل لا بد أن يتسم بكثير من الأحكام الذاتية، ووعيا مني بهذا المعطى تحريت أن أكون ما أمكن موضوعيا في التعاطي معها". وكذا خطورة المغامرة التي يقبل عليها "أشعر وأنا أواجه الإجابات عن هذه الأسئلة المؤلمة، أنني ربما قد انحرفت عن الحديث المباح عن مساراتي في حياتي، وانزلقت إلى ما يكاد يكون اعترافات بما يشبه الأسرار التي لا شأن لغيري بها، فينتابني إحساس بالحرج فيما أقدم على قوله أو السكوت عنه".
غطت السيرة، بجرأة وصراحة نادرتين، مختلف المراحل العمرية للكاتب، فيما يشبه فصولا عن المحطات البارزة في كل حقبة، فعن الطفولة كتب "في طفولتي المبكرة، عودة إلى أسرتي، في الكتاتيب، في شغب الطفولة..."، وتحدث عن فترة الشباب "في المعهد الإسلامي في تارودانت، الطلاب السوسيون في فاس، في الديار الفرنسية، في جامعة محمد الخامس..."، وأفرد لحياته الأسرية حيزا مهما، لوقعها القوي على حياته "فيما قبل الزواج، انكشاف النوايا، بداية الانحدار، نهاية الحلم، زواجي الثاني...".
خيم الحزن الشديد على كل تضاريس حياة جامع، الذي أخذ هذا الاسم، لتصادف يوم مولده مع أحد أيام الجمعة، وتيمنا به، على ما جرت عليه عادة تقاليد القوم، "ربطوا الاسم الذي أطلقوه علي باسم يوم الجمعة. فأيام الطفولة كانت سوداوية، لا نعرف في مأكولاتنا غالبا إلا خبز الشعير الذي نلتهمه حافيا، وقد نرفقه بكأس أو كأسين من الشاي إن توافر... ومن المأكولات التي يبدو أنها في المتناول لكثرة تواترها وجبات الكسكس بالشعير". وتحدث عن متاع منزل أسرته، في إحدى قرى مدينة تزنيت في الجنوب المغربي، قائلا: "تأتي علينا فترات تكون الكؤوس التي لدينا بعددنا، بحيث لكل منا كأسه الخاصة به، وويل لمن أضاع كأسه أو فرط فيها أو كسرها".
وفي تصوير بليغ لشظف العيش في مغرب الاستعمار، يتكلم عن الألبسة التي لا تتعدى في الغالب "قشابة" من الصوف "مما ينسج من أصواف نعاجنا. فلا يعرف القوم السراويل ولا الجوارب ولا الأحذية. نمشي حفاة القدمين، وإني شخصيا لا أملك بلغة أو حذاء، لذلك كانت الإصبع الكبيرة والتي تليها لقدمي مشوهتين لحد الآن، من جراء تعثري بالأحجار، بحيث ما إن يأخذ جرحها في الاندمال حتى تتكرر العثرة، وتنتكس الجراح".
تبدو فترة الصبا حيث التعلم والتلقين أخف فصول السيرة كمدا، لانشغال الكاتب بسرد أوليات التعلم في المدارس العتيقة في المناطق الأمازيغية في المغرب. فأسهب في وصف المراحل التي يخضع لها المتعلمون قصد اكتساب مهارة القراءة والكتابة، بدءا بمرحلة "إد ليف" التي ترمي إلى تعليم الحروف حرفا تلو حرف للمبتدئين من خلال سورة الفاتحة. ثم مرحلة "إد وانصب" التي تنقل الصغار إلى تعلم الحروف في علاقاتها بالحركات التي تلحقها. وأخيرا "إيكماين" التي يتولى فيها المتعلم التأليف بين مكتسباته السابقة.
بعد واقعة الطرد من المعهد الإسلامي في تارودانت، بسبب النزوع نحو إثارة الشغب الذي لازم جامع، وجعله في طليعة المشاركين في الانتفاضة التي عرفها المعهد في العام الرابع من نشأته، وكادت تعصف بالمؤسسة. التحق بمدينة فاس لإتمام دراسته في جامعة القرويين، حيث التحصيل العلمي في إحدى منارات المعرفة في الوطن العربي. وكان له ذلك، بفضل مبادرة تجار سوس، حيث موطن الكاتب، بإعداد مأوى خاص للطلبة السوسيين الوافدين، أو المنتظر أن يفدوا على فاس، بغرض التعلم والمعرفة.
علاوة على الحياة الطلابية في فاس، تحدث الكاتب عن وقائع تجعل من فاس منارة العلم بامتياز، "فضلا عن توافر الكتب في عدة مكتبات عامة وخاصة في أرجاء المدينة، بالمزاد العلني للكتب المستعملة الذي يقام صبيحة كل يوم خميس أمام مسجد القرويين، فكنا نرتاد هذا المزاد لاقتناء مختلف الكتب بأثمنة بخسة، ونقبل على قراءتها وتبادلها، بحيث أجرؤ على القول إن ما استفدناه من هذه الكتب المفتوحة على جميع الأفق، أكثر مما استفدناه من المقررات الدراسية الرسمية المحدودة".
قبل الالتحاق بالعاصمة الرباط، وعلى غرار الطلاب المغاربة، زار جامع فرنسا الدولة التي تستهوي عادة المغاربة، ربما بحكم الاستعمار، زيارة بددت تلك الأحلام التي نسجها عن فرنسا، "فقد أدركت بعد قضاء أيام في باريس، أي بعد أن هدأ شوقي الذي كان قويا إلى زيارتها، أنه ليس فيها ما يبرر كل هذا الشوق، وأجرؤ على القول بشكل عام إن ما تأتى لي أن أراه فيها، لا يرقى إلى مستوى التصورات التي ينشط خيالي في تكوينها عنها... وانطباعي عن فرنسا لم يتغير، رغم أني عدت بعد ذلك إلى زيارتها في فصل الصيف الموالي".
اختار جامع شعبة الفلسفة في جامعة محمد الخامس في الرباط، وكان على موعد مع أول طعم للسقوط في حياته، بعدما قرر محمد عزيز الحبابي عميد الكلية الذي يعده نفسه وصيا وحيدا على الفلسفة في المغرب - والكلام هنا لجامع - إقصاءه، ليس بسبب تحصيله الدراسي، إنما في ضوء إجابات تتعلق بالاسم والانتماء والنسب ومسار الدراسة.
يسرد الكاتب تفاصيل واقعة بمنزلة صك اتهام مباشر للحبابي "لا يوجد في الكلية أستاذ آخر للفلسفة يمتحننا سوى عميدها الدكتور عزيز الحبابي، وهو الذي تولى هذه المهمة، وفي اليوم المحدد لذلك انتظرنا أمام مكتبه لعدة ساعات، بحيث لم تسمح له مهامه الإدارية بامتحاننا إلا في الدقائق الأخيرة.. أدخلنا جميعا إلى مكتبه وأخذ يسأل بعضنا دون بعض، لا عن تحصيلنا الدراسي، إنما عن اسم كل منا وأصله وفصله، وأين درس، ولما جاء دوري استثقل اسمي ولم ينطقه بشكل جيد، وأصلي بأني من أكادير، وأنني درست في القرويين، وكان سؤاله الأخير عما إذا كنت أتقن الفرنسية؟ فأجبت بأني عازم على تعلمها بشكل جيد".
جرأة جامع لم تتوقف حتى حين حديثه عن تفاصيل تفكك أسرته النموذجية، حيث سرد حيثيات إصرار زوجته وأم أبنائه الثلاثة، محمد عماد وتاشفين ووديعة، على طرده من المنزل الذي امتلكاه معا، متهما إياها بالنصب والاحتيال عليه. وهذا ما عده "غدرا صراحا لا يمكن تبريره، وخطأ فادحا لا يغتفر". وحكى تجربته الثانية في الزواج، التي انفجر لحظة الكتابة عنها "كان ما أقدمت عليه فعلا شرا بحثت عنه بظلفي".
لا يمكن تفسير هذه الجرأة في الكتابة والفضح، لدى رجل بلغ من الكبر عتيا، سوى أنه علاج نفسي، وفرصة للتفريغ تقي صاحبها من مهالك الاضطراب والاكتئاب. وكانت راحة الكاتب بادية في خاتمة السيرة، حيث قال "وعند هذا التاريخ ينتهي الكلام المباح، إذ لا علم لي بعد ذلك بالآتي من الأيام، وفي انتظار موعد رحيلي، أيا كانت المسافة الزمنية التي تفصلني عنه، فإن أكثر ما أرجوه، لم يعد طول العمر كما كنا نرجو من قبل، بل إن أقصى ما أرجوه هو دوام الصحة والعافية إلى آخر لحظاتي".
المصدر: الأقتصادية