التاريخ الثقافي لطائفة الصابئة المندائيين
يعترف الباحث العراقي فوزي صبار طلاب، في كتابه الصادر حديثاً (145 صفحة من القطع المتوسط) عن دار نشر «رورهه للآت» في مدينة أربيل بإقليم كردستان العراق، بصعوبة البحث في التاريخ الثقافي لطائفة الصابئة المندائيين خلال العصور القديمة التي سبقت انبثاق العصر الإسلامي والعصور التي تلته، بسبب شح المصادر التي تتناول هذا النوع من البحوث. فليس هناك مؤرخون من هذه الطائفة أزاحوا الجانب الثقافي المظلم عنها، إنما جرى التركيز، إلى حد ما، على الجانب الديني لهذه الطائفة التي تعد نفسها من أول الأديان التوحيدية. مثل هذه الدراسة وهي تبسط أمام القارئ التفصيلات في غزارتها، تحاول أن تتبع بدقة المشكلات التي حالت دون الإفصاح عن مبدعي هذه المجموعة البشرية في نشأتها وتكوينها، والكتاب محاولة في الأساس لمعالجة الهدف المنشود، وهو حثّ الدارسين والمهتمين على رصد هذه الظاهرة، فمشكلة المؤرخين والفقهاء الأوائل من وجهة نظر الكاتب أنهم «اعتمدوا على كتابات أعداء الديانة الصابئية من النسطوريين والسريان للإيقاع بأصحاب هذه الديانة، والمنطق يقول إنه لا يمكن اعتماد كتابات الأعداء حجة للأخذ بها والسير على هديها، فهو بالتأكيد (إيغال) وعداء ضمني في النفوس».
لا يمكن تحديد الفترة الزمنية التي ظهرت فيها الديانة الصابئية التي يعد أبناؤها في العراق أنهم أصحاب الأرض، بشكلها الناضج المتكامل، لكن فترة اتخاذها الشعائر الدينية وتطوافها حول (البيت) الكعبة بعد إنشائه من قبل النبي إبراهيم خليل الله، هي الفترة الأقرب إلى تأسيس هذا الدين بشكله الكامل وبطقوسه المعروفة. وترتبط الديانة المندائية بالفلسفة الغنوصية، التي تمتد جذور أفكارها إلى ما قبل الميلاد وتركز نشاطها في القرنين الأول والثاني منه، ونضجت واكتملت في نهاية القرن السابع الميلادي. وتختلف الغنوصية عن المندائية في أنها حركة فكرية ودينية متعددة الأوجه ليست لها طقوس خاصة ولا رجالات دين، وهذا ما يميزها عن المندائية. فلسفة الغنوصية تدعو إلى أن المعرفة تتم من خلال الرؤية المباشرة للحقيقة (من يمتلك قلبا طاهرا، ولم تدنسه الخطيئة ويشع بالنور، فإنه يبارك برؤية الله) ومهمة الغنوصية هو عملها على تحرير النفس البشرية (قبس من الجوهر المقدس من (إسار) الجسد الدنيوي، فهي رهينة لدى محبس الجسد والذي أوجدته قوى الظلام). والغنوصية تلتقي مع المندائية في مبدأ واحد من حيث الخلق، فالخلق عند المندائية معروف، وهو أن الخالق (الله) سبحانه وتعالى، يبعث بالنفس وهي مكرهة للهبوط لتستقر بجسد الإنسان الذي خلقته قوى الظلام، ثم لا تلبث تتحرر منه عند سكون هذا الجسد راجعة إلى خالقها. يقول الكاتب «الفلسفة التي تؤمن بها المندائية تجري كلها بلوحات وصور أدبية بلاغية غاية بالتصوير الجميل الخلاب، ولكنها محددة ومركزة، نصوصها لا لبس فيها أو ضبابية، وهذا ما جعل المندائية والغنوصية تتعارضان مع الأديان السماوية الثلاثة الأخرى اليهودية والمسيحية والإسلامية، في مبدأ الخلق».
وجود الصابئة المندائيين منذ ألفي عام «ق.م» في دست ميسان، والبحث فيما يربط بينهم وبين البابليين، يدفعان كثيرين إلى معرفة عراقة الدين المندائي «وهذه الحقيقة يعترف بها المؤرخون الشيعة والسنة من خلال مصادرهم الكثيرة».
يستعرض الكاتب مراحل النهوض الثقافي للحضارات القديمة في حوض وادي الرافدين ووادي النيل، ويشير إلى «قدم ديانة الصابئة المندائيين قبل التاريخ الميلادي، وهو الثابت، واستمرارها بعده وإلى اليوم، حيث إن أغلب مصادر التاريخ إضافة إلى كتب المندائيين الدينية نفسها وعلى رأسها كتابهم المقدس (الكنزا ربا)، (الكنز العظيم)، تتحدث عن وجود أعداد كثيرة من هؤلاء الأقوام قد تمركزت في مناطق مختلفة من شبه الجزيرة العربية، بداية من منشئهم في حوض وادي الرافدين جنوب العراق وانتشارهم وهجرتهم، وبقاء أعداد منهم يسكنون تلك المناطق، فقد هاجروا إلى مصر وفلسطين، ورجوعهم إلى مدينة حران في الشمال الغربي من العراق، ثم انحدروا ورجعوا إلى منشئهم الأصلي الجنوب العراقي حيث مدينة ميسان وجميع المدن والقصبات التي تلي مدينة ميسان التاريخية». ويتساءل الكاتب: «كل هذه المناطق الشاسعة التي سكنها الصابئة المندائيون، أيعقل أن هذه المجاميع السكانية، كانت تخلو من مثقفين وأدباء وشعراء وفنانين؟ فأين هم من كتب المؤرخين، خصوصا القدماء الذين دونوا التاريخ الثقافي في القرن الثالث وبداية الرابع الهجريين وبداية العاشر الميلادي؟». يجيب الكاتب عن مجمل هذه التساؤلات، بأنه من المنطق أن بعض أولئك الشعراء أو الكتاب الذين سبقوا ظهور العصر الإسلامي، كانوا على تلك الديانة التوحيدية، لكن ومع الأسف فإن المؤرخين ذكروا فقط سيرهم وأدبهم وأشعارهم تلك، دون ذكر الديانة التي كانوا ينتسبون إليها، رغم ذكرهم ديانات بعض الشعراء الآخرين. أما السبب من وجهة نظر الكاتب في غمط حقوق هؤلاء من حيث انتسابهم الديني، فهو «الديانة السماوية التي ينتسبون إليها، وقد يكون، وهذا وارد بسبب أولئك أنفسهم (الصابئة المندائيون)، لحرصهم على سرية تلك الديانة أو الخوف عليها أو عدم وضوح فلسفتها. ولكنهم وفي أغلب فصول حياتهم، وحتى في قصائدهم الشعرية، يكثرون من تلك المفاهيم، بل لقد دافعوا وهاجموا في سبيلها، ونموذج الشعراء هو زهير بن أبي سلمى».
يستشهد الكاتب بكثير من النصوص والقصائد الشعرية العربية التي دونت قبل ظهور الدين الإسلامي الحنيف، وهي تمجد العقيدة الصابئية المندائية وطقوسها، التي تؤكد وحدانية الله، فهو الموحد بين الناس، فهو يقول: «لا يمكن تحديد الفترة الزمنية التي ظهرت بها الديانة الصابئية بشكلها المتكامل، لكن اتخاذها الشعائر الدينية وتطوافها حول (البيت) الكعبة بعد إنشائه من قبل النبي إبراهيم خليل الله، تكون هي الفترة الأقرب إلى تأسيس هذا الدين بشكله الكامل وبطقوسه المعروفة». ويضيف أن جميع المصادر الإسلامية تؤكد أن تلك الأقوام؛ بدءا من إسماعيل وإبراهيم والجرهميين والأحناف والصابئة والخزاعيين، كانت جميعها تؤمن رغم تشتتها بوحدانية الله، وأن كثيرا من الشعراء الذين سبقوا العصر الإسلامي، أمثال زهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني وذي الأصبع العدواني وأوس بن حجر، وهم «صفوة عامة الناس وناطقهم ومتحسس بأحاسيسهم، يبرهن أن الناس كانوا يدينون بديانات متعددة ويؤمنون بها»، أظهروا إيمانهم بالبعث والحشر في الحياة الأخرى، وكل منهم متيقن من أن هناك الحياة الخالدة، وهو ما يؤكد بشعر كل واحد منهم وأن تمسكه بهذه القناعة إنما نابع من أفكار دينية بحتة، علّمته كيف يكون صالحا مؤمنا ينتقل بها إلى عالمه الخالد القادم؛ فالصابئي عندما ينتهي من أداء مراسم الحج يذهب لينحر الذبائح، وكان إبراهيم («بهرام» كما تروي الأقوام السالفة) يتقدم الناس ويرشدهم، وقد استمر القريشيون بشعائرهم، وجددوا بناء البيت (الكعبة)، والنبي محمد عليه السلام لم يكن أعلن دعوته بعدُ. فالصابئي وإلى يومنا هذا عندما يؤدي الصلاة «إنما يؤديها إيمانا منه ودليلا على تقواه، ولا تفرض عليه فرضا، إنما شروطها تنحصر في التطهر الجسدي، فمثلا هو لا يقترب من البيت إلا إذا كان طاهر الجسد، وبعد أن يغتسل من جنابته ويتطهر جيدا. والصابئي يؤدي طقوس الصلاة والصوم ويؤمن بشريعة المساواة بين البشر، وهو يزاوج بين الطهارة المادية والروحية، وهو يحرم القتل والسرقة».
ينتقل الكاتب إلى العصر العباسي، الذي شهد انفتاح الخلفاء والأمراء العباسيين على معظم مناحي الحياة، خصوصا الثقافية والعلمية، وهنا برزت على الساحة الثقافية أسماء لامعة شعرية؛ منها ونثرية وفنية. فقد أدى نزوح كثير من الأقوام إلى مدينة بغداد خصوصا من حرّان، التي شهدت الحياة فيها أجمل صورها، إلى بروز تلك الإعلام بعد أن خفت الروح الدينية المتشددة في العصر العباسي الثاني رغم وجودها في الخصوصيات وفي درجات السلطة والقضاء الرسمية. بل لم يسمح لغير المسلمين باعتلاء تلك المناصب، فأشير إليهم تارة بالترغيب وأخرى بالترهيب، إلا من استطاع بعلمه أو أدبه أن يشار إليه بالبنان، وأن يصل إلى درجة عليا يسمو بها عن الآخرين. هنا يقول الصابئي ثابت بن قرة في حديثه عن حرّان: «ليت شعري من عمّر المسكونة وابتنى المدن، أليس خيرة الصابئة وملوكهم؟ من أسس المرافئ والأنهار والقنوات؟ ومن شرح العلوم الغامضة؟ فلولا علوم الصابئة لأمست الدنيا قفراء فارغة متقلبة في العوز. ولو تم التوثق مما وصفت به هذه الدنيا بأنها مدينة إبراهيم ومدينة أخيه حاران ومدينة التنافس الآشوري والبابلي ومن ثم المسيحي والإسلامي، لما تم رميها بباطل. فليس من الصحيح أن تكون مدينة بهذه القيمة وهي على ضلالة وبطلان. إن قيمتها (حرّان) ليست بالقيمة الجغرافية أو وفرة مياهها، بل إن قيمتها فيما أسس الأوائل القاطنون فيها... هو ما كان وراء هذا الاعتبار الذي جعل من يحظى به كأنه قد ملك زمام الدين والحكمة».
ويستعرض الكتاب كثيرا من الأسماء الصابئية المندائية اللامعة في العصر العباس وما بعده، مثل أبي إسحاق الصابي، وغرس النعمة الصابي، وقاضي بغداد أبي سعد، وعمران الصابي نديم الخليفة المأمون... وعشرات غيرهم.