المؤرخ العسكري الأميركي يكتب عن حصار الصليبيين لعكا
من طروادة إلى القسطنطينية ففيينا وستاليننغراد، يحفل التاريخ العسكري بالحصارات، كنوع خاصٍ من المعارك التي وإن لم تمتلك ألق الحسم السريع بسبب تكاليفها الباهظة، سواء لناحية أعداد الضحايا أو إدارة المجهود اللوجيستي وراء العمليات القتالية، فإنها كانت في أغلب تعاقباتها شديدة الثقل من الناحية الاستراتيجية، التي شكلت علامات على تحولات حادة في مصائر الأمم والحروب، ومفاصل لا يشبه ما قبلها الذي بعدها. ولعل حصار المدينة الفلسطينية عكا، المطلة على شرق المتوسط، لـ653 يوماً (1189 – 1191)، في مفتتح الحملة الصليبية الثالثة، يُعد أهم تلك الحصارات في العصور الوسطى، ليس لناحية كونه أطولها على الإطلاق فحسب، أو حتى للنتائج الاستراتيجية التي ترتبت عليه لمائة عام تالية على الأقل من تاريخ المشرق العربي، وإنما كذلك للهالة (الإعلامية) الهائلة التي رافقته بالنظر إلى «دولية» القوات المنخرطة فيه، وعلو كعب القيادات المشتركة به من الجانبين - ملوكاً وأمراء ونبلاء وقادة عسكريين ورجال دين - وما نسج حوله من أساطير شعبية وتلفيقات تاريخية وسرديات متعارضة، حتى كاد يخرج من سياق ديمومة الصراع المتطاول عبر العصور الوسطى كلها ليصبح وحده مثل نقطة رمزية شديدة التكثيف لتلاقي وتقاطع الشرق – غرب، ما زال كثيرون إلى اليوم يعيشون في ظلالها عندما يقرأون أحداث اليوم السارية.
لأجل ذلك كله كتب الكثير عن حصار عكا، وتتوفر عنه مصادر غربية وشرقية كثيرة، وذكر في كثير من النصوص التي أرخت لتلك المرحلة المخضبة بالدماء والآلام، لكن تلك المصادر والنصوص في أغلبها بقيت، وإلى حد كبيرٍ، أسيرة الأدلجة، وأداة دعائيّة بيد الزعماء وأبناء الطبقات الحاكمة وقت كتابتها، ورهينة الانفعال اللحظي أو العواطف الدينية المتطرفة على جانبي المتوسط. ولذا، فإن كتاب المؤرخ العسكري الأميركي جون دي. هوسلر الجديد «حصار عكا (1189 - 1191): صلاح الدين - ريتشارد قلب الأسد والمعركة التي حسمت الحملة الصليبية الثالثة»، مطبعة جامعة ييل بالولايات المتحدة، 2018، يأتي في وقت تزداد الحاجة فيه ربما أكثر من أي وقت مضى لتفكيك جذور العلاقة المرتبكة بين الشرق - غرب، بعدما تصاعدت موجة الفاشية الجديدة في عالم الغرب، مستندة إلى تلفيقات وهويات منسوجة بالوهم، ديدنها العداء الذي يصور لأذهان العامة وكأنه أمر لا بد منه، ولا مناص، بينما هي في واقعها علاقات أفسدتها مصالح الطبقات الحاكمة التي طالما وظفت الأديان والقوميات والأفكار لتحقيق غاياتها الجشعة، من دون أقل اهتمام بما تتسبب به للشعوب من قهر وعذابات.
ولأن هوسلر عسكري بحكم المهنة، مدرس استراتيجيات بالجيش الأميركي، ومؤرخ احترف تحليل المعارك التاريخية من الجوانب التقنية أساساً، فإن نصه عن وقائع الحصار الشهير يغادر إلى حد كبير مساحات السرد الآيديولوجي المحض، وتهويمات كتاب الملوك والسلاطين، ليغوص في التفاصيل التقنيّة والعسكريّة والسياسيّة للحدث المفصلي، مفككاً السياسة فيه بمعاول طوبوغرافيا الموقع الجغرافي، ولوجيستيات المعركة، ومقارنة النصوص.
بدأ حصار عكا في أغسطس (آب) عام 1189، قبل وصول الزعماء الأوروبيين الثلاثة الذين سيقودون الحملة التي شنتها أوروبا لوقف تداعيات الهزيمة الشاملة التي ألحقها جيش صلاح الدين الأيوبي بجيوش الدويلات الصليبية شرق المتوسط في معركة حطين (فلسطين المحتلة) عام 1187، والتي كان لها أن فتحت الأبواب مشرعة لتحرير مدينة القدس وميناء عكا الهام، إلى جانب استيلاء الفرسان المسلمين على النسخة المزعومة من قطعة الصليب الأصلي بقيمتها الهائلة الرمزية. وكانت بقايا القوات الصليبية في المنطقة قد تجمعت حول عكا، بقيادة غي دي لوزينيان، ملك مملكة القدس، بوصفها رأس الجسر الذي لا بد من استعادته للانطلاق نحو تحرير المدينة المقدسة. فبدأ حصار الحامية الصغيرة للمدينة، بانتظار ريتشارد الأول ملك إنجلترا، وفيليب الثاني ملك فرنسا، المتجهَيْن عبر البحر نحو الشرق، بينما غرق شريكهم الثالث الإمبراطور الألماني فريدريك بارباروسا في أثناء عبوره أحد أنهار تركياً، وهو الذي خشي ركوب البحر وفضلً الزحف براً.
وقد عسكرت القوات الصليبية حول المدينة، وفرضت عليها حصاراً خانقاً، بينما اقتربت منها القوات الأيوبية، والمتطوعون من أهل المنطقة، وأقامت حلقةً حول القوات الصليبية من دون أن توقف قدرة هؤلاء على استقبال الإمدادات العسكرية والمقاتلين من أوروبا بشكل شبه دائم لتغطية الخسائر المستمرة. ويسجل هوسلر 75 اشتباكاً رئيسياً بين الطرفين خلال عامي الحصار، سقط في بعضها عدة آلاف بين قتيل وجريح، وشهدت أعمال عنف وتعذيب وإعدامات جماعية تفنن كل من الطرفين في إيقاعها بجنود الطرف الآخر بحكم العواطف الدينية المجيّشة، إضافة إلى توظيف مروحة واسعة من أدوات الحرب، وأحدث معدات القتال، وفق تكنولوجيات ذلك العصر، بما في ذلك الخنادق والمدفعية والسفن والغارات وحروب العصابات وغيرها.
ولا يفتقد أي من مراحل حصار عكا إلى العناصر الدرامية، وهي أحداث رُويت بشكل جزئي أو كلي في نصوص أخرى عن تلك المرحلة، لكن هوسلر ينجح بتخليصها من الأساطير والسرديات الرسميّة، ليقدّمها ضمن أشمل نص مُصفى من التباسات التاريخ. فهو مثلاً ينفي نفياً قاطعاً الرواية المتداولة عن اجتماع ريتشارد الأول - سُمي لاحقاً قلب الأسد - بصلاح الدين الأيوبي، وعن صداقة قامت بينهما لدى توقيع اتفاق صلح الرملة 1192، الذي تلا انتهاء حصار عكا وسقوطها بيد الصليبيين. كما يُخفف هوسلر من اللوم التاريخي الملقى على عاتق ريتشارد الأول لقراره إعدام 2700 من حامية المدينة التي استسلمت، ملقياً بحصة متساوية من المسؤولية عن المذبحة على القائد الأيوبي لـ«تلكئه المقصود»، كما يزعم، في تسليم الأسرى الصليبيين لريتشارد، وفق الاتفاق المبرم بينهما في هذا الخصوص.
وهو يرسم صوراً شديدة الحيوية للمناورات السياسية من كثير من الشخصيات الهامة التي كانت طرفاً في إدارة المعارك بين الجانبين. وهو في ذلك يقلل من اللمعان الشديد الذي منحه المؤرخون لدور الملك ريتشارد الأول في إدارة الحصار، بينما يعيد الاعتبار لدور فيليب الثاني - ملك فرنسا - والقائد عديم الكاريزما الذي كان قد وصل إلى فلسطين قبل ريتشارد، وتعاون معه بإخلاص لمصلحة المعركة، رغم التنافس الدائم بين الأسر المالكة على جانبي القنال الإنجليزي. لكن ريتشارد الأول كان دون شك خبيراً بالعلاقات العامة، ونجح بالحصول على حمد أكثر حتى قبل وصوله إلى الأراضي الفلسطينية، بالنظر إلى خطوته الاستراتيجية في احتلال قبرص، التي تحولت إلى قاعدة خلفية بالغة الأهمية لتنسيق الأعمال القتالية، إضافة إلى حفل زواجه الباذخ في الطريق، وتمكن أسطوله من إغراق سفينة كانت تحاول إيصال الإمدادات للحامية المحاصرة داخل المدينة.
لم يُوفق ريتشارد الأول في استعادة مدينة القدس - الهدف الرسمي المعلن للحملة الصليبية الثالثة - لكن سقوط ميناء عكا في يد الصليبيين منح دويلتهم المسماة مملكة القدس فرصة البقاء لمائة عام تالية، قبل أن تستعيده قوات المماليك عام 1291، وتلك بالطبع حكاية أخرى تحتاج إلى هوسلر آخر يرويها. حتى ذلك الحين، فإن نقل كتاب (حصار عكا) إلى العربية مهمة عاجلة وهامة وجليلة.