Skip to main content
الرسام السعودي الرائد طه الصبان يستعيد مواطن الذاكرة الهاربة

لا شيء يضاهي لحظة الإبداع الفني سوى استذكارها، والفنان التشكيلي السعودي طه الصبّان الذي يمر في هذه الأوقات بمرحلة الاستشفاء من مرض عضال، محاطاً بعائلته وأصدقائه الكثر ومحبيه من الفنانين العرب الذين يعودونه في دارته في جدّه حيث يقيم، يتذكر وإياهم ماضيه التشكيلي وهو يقلبه يوماً بعد يوم على موقعه الخاص على الفيسبوك، كأنما لتضميد الوجع ومن أجل استدعاء ما يرضي القلب والروح. ولئن كانت مسألة الماضي بالنسبة إلى الفن هي عارضة إزاء المقومات الإبداعية التي ينطوي عليها العمل الفني، فإننا نسعى في هذه العجالة إلى مشاركة الفنان مراجعته لمحطات من مساره الفني الممتد منذ أواسط سبعينات القرن العشرين حتى أيامنا الراهنة.


طه الصبّان رائد من رواد الحداثة العرب الكبار، عصامي من مواليد مكة المكرمة (العام 1948)، صادق الفنان عبدالحليم الرضوي غداة عودته من إيطاليا، وأكمل من بعده مع رفقاء جيله مسار التأسيس للحداثة في المملكة، تبّوأ عدة مناصب رسمية وترأس أكثر من جمعية وأشرف على «أتيليه جدّه»، له مقتنيات في عدة مطارات سعودية ومتاحف عربية لا سيما في متحف معهد العالم العربي في باريس، ومشاركات في بينالات عربية ودولية. استطاع أن يؤسس لجمالية فنية خاصة به، قائمة على استحضار الموروث التراثي القديم بأسوب تعبيري يقوم على اختصار الأشكال بما يوحي بإيماءاتها وحركتها في الفضاء كي يضعها في سياقات تأليفية ماهرة تستمد قوتها من جذوة العلاقات اللونية الحارة والباردة والمتناغمة والمتناقضة، بما ينسجم مع المفاهيم الحداثوية التي تخوض عميقاً في مسائل التجريد اللوني. شغلته مسألة العودة إلى استلهام التراث وقضايا الهوية والانتماء إلى الذاكرة المكانية المفقودة، التي شكلت قاسماً مشتركاً مع هواجس الفنانين العرب المحدثين. وقد استطاع فن طه الصبّان على امتداد مراحله وتنوعات تجاربه أن يقدم أجمل صورة عن الموضوع التراثي في قالب جمالي محدث.

لا تغيب عن شمس ذاكرته أطياف المدن التراثية القديمة بزخارفها وعقودها وألوانها وشرفاتها المطلة على الحارات الضيقة التي تضج بحبور قاطنيها. فالكينونة بالمعنى الوجودي تتراءى في أعماله من خلال التلازم بين المكاني والإنساني، لأنه الوجود الآفل الذي لا يمكن استحضاره إلا بالفن عبر الاستذكار والاستدعاء، فالتغييرات والتحولات العمرانية والتجديدات المستحدثة التي عرفتها المملكة العربية السعودية، أدت إلى غياب المظاهر الشعبية التي رافقت أنماط العيش السائدة في الأمس القريب في الأبنية التراثية، وحولتها إلى ذاكرة دارسة إلا من ملامحها الحاضرة في عيون فنانيها. لذا يفتح طه الصبّان نوافذ الحنين إلى الماضي على الرؤى الآتية من الذاكرة البصرية المتعلقة بمكان الطفولة والمراهقة، يتأمل في تراث الحجاز الكامن في مدينة القداسة والألفة ومقصد الحجيج، ومقر العيش الرحيب والعادات والتقاليد العريقة، بكل ما تحمله من الانتماء المحلي السعودي. هذه الروابط التي شكلت في أعمال الصبّان عالماً متكاملاً مليئاً بالفرح والبهجة والإشارات والمفردات. فهو لم يتخل يوماً عن التشخيص وإن كانت محاكاته للواقع شبيهة بإغماءة لذيذة أو حلم تجريدي لفرط التأويلات الشكلانية وسياقاتها وتموضعاتها في لعبة التأليف، مع النغمية اللونية التي تشغل اللوحة. إذ ليس من ضجيج أعلى من ضجيج اللون حين يندلع ويداهم الأشكال فيغطيها أو يواريها أو يكشفها وهو يشق مساره إلى ملاعب الطفولة وحلقات النسوة ويتغلغل إلى حلقات الرقص ومشاهد الفروسية، وينعقد على بوابات تذكارية لبيوت تشرف على حركة السوق، حيث مجريات الحياة بين دكاكين الباعة وصنّاع الأواني الفخارية والأزقة الضيقة التي تتلاشى أمام رمل الشواطىء وتيه القوارب المبحرة في عباب الذاكرة. ولئن شغلت العمائر التراثية لوحات الصبّان بقاماتها السامقة وقبابها وروشاناتها، فإن البنية العمودية في تناميها الارتقائي تحمل الكثير من الخصوصية التراثية السعودية وامتداداتها المعاصرة.

من التكعيبية إلى التجريد ومن مناظر البحر والجبل إلى مناظر الداخل، وعين الفنان تسجل وتختزن وتنسى لتستعيد وتتذكر وتتحرر. هذه الحرية التي تجعل كل شيء ممكناً بنظر فنان يستطيع أن يتلاعب بالكتلة والفضاء الخلفي وما قبله وما دونه وعلى حوافيه. فالتعاطي مع السطح يظهر بغاية المرونة والموضوع يأخذ مجراه تلقائياً من داخل لغة تشكيلية متينة مهما ابتعدت في تركيب عناصرها وموتيفاتها تظل على مرمى ريشة الفنان الذي يفسح مكاناً لأزرق النهار أن يفوح ويتنفس، وللغيوم البيض أن تقتحم المراكب الراسية على الشاطىء، وللقباب الداخلية أن تنحني مثل يد الأمومة على سكان الحي، الذين يستيقظون على ضجيج اللون وينامون على حكايات العتمة وغناء الأمهات. ثمة نهارات وليالٍ في لوحات الصبّان وثمة بحر وشمس وصحراء وبانوراما تفتح أبواب المخيلة على خصائص عمارة الأمكنة التي تخرج من حالتها الوصفية- الحكائية إلى مفردات تشكيلية مخروطية ذات مؤدى جمالي يتخطى عتبة التشييد الهندسي إلى مقر للإرتقاء الروحاني المتآلف مع قامات نساء مثل القوارير. هذا التماهي بين حضور المرأة ووظائف المكان أوصلت تجارب طه الصبّان إلى اتجاهات جديدة مغايرة لشقيقاتها في أعمال الفنانين العرب المحدثين. وطه الصبّان هو رسام المرأة بامتياز، رسمها منفردة بأزيائها الشعبية، ورسمها في طور الجماعة على ضوء المصابيح في خيام الليل وأسراره ورسمها واقفة على عتبات النهارات المضيئة بالألوان وحرائقها وهي حارسة الليل والسند العائلي ورمز الحب والإطمئنان.

ما من فواصل حقيقية بين مراحل الصبّان في علاقته المتأرجحة بين الواقع والتجريد، وما من شيء يحد من قدرة لغته التشكيلية من أن تجد حواملها المؤاتية للتعبير كي تنبري للعيان في أعمال جدارية أو نصبية أو لوحات فسيفسائية، ومهما بلغ البعد الحكائي مجراه وأعماقه في أعمال الصبّان، فإن البنائية التي تعصف بها الألوان وتتراقص وهي تلف فضاء اللوحة بعبق تجريدي، سرعان ما تحيل الأشكال إلى مجازات تعبيرية في مسارب الرؤية الشعرية.

19 Aug, 2018 10:33:50 AM
0

لمشاركة الخبر