تلك الجروح المفتوحة بين الأرمن والأتراك
لم تكن حرب الإبادة التي شنت ضد الشعب الأرمني في بدايات القرن العشرين إلا سلسلة متصلة من التطهير العرقي، طاولت أكثر من شعب تحت مسمى أوسع حمل عنوان «جرائم ضد الإنسانية».
ويتشارك في المسؤولية عن الجرائم ضد الإنسانية كل من نفذ أو شارك في شكل مباشر أو غير مباشر أو سكت أو غض النظر عنها. وإن لم تلق هذه الجرائم -التي لا تموت بالتقادم- العقاب، فإن هذا النوع من الجرائم سيظل سيفاً مسلطاً على البشرية كلها، يعاد إنتاجها من جديد وتبقى جروحاً مفتوحة تنزف بلا انقطاع.
هذا ما حدث لسكان أميركا الأصليين أو ما يطلق عليهم الهنود الحمر، وأيضاً في استعباد شعوب القارة الأفريقية وبيعهم عبيداً في الأسواق العالمية المتاجرة بالبشر، ومن ثم المحرقة النازية التي قضت على الملايين من اليهود في القارة الأوروبية على يد هتلر وألمانيا النازية، ثم جرائم التطهير العرقي بحق الفلسطينيين وطرد مئات الآلاف منهم خارج بلادهم وتشريدهم المستمر حتى يومنا هذا، ناهيكم عن عمليات التطهير العرقي أيضاً بحق الأكراد وطردهم من بلادهم وتقسيمها على أربع دول هي العراق وإيران وتركيا وسورية، ثم ما جرى من تطهير عرقي في بلدان يوغوسلافيا القديمة، لا سيما في منطقة البوسنة، وغيرها الكثير من جرائم ضد الإنسانية الممتدة على طول الكوكب وعرضه. منها ما تمت محاسبته جزئياً أو شكلياً، ومنها ما تم السكوت عنه أو غض النظر، ليشكل هذا السلوك اللاأخلاقي العالمي أرضية خصبة لمزيد من الإبادات أو عمليات تطهير عرقي كما يحدث الآن في سورية على سبيل المثال لا الحصر، أو لا يزال يحدث الآن على أرض فلسطين، وفي ظل تطور وسائل الإعلام المتلفزة وشبكة الإنترنت العابرة للقارات، ليصبح السكوت عنها أو غض النظر مشاركة صريحة في هذه الجرائم، تضع الضمير الإنساني أمام مساءلة أخلاقية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل، ولتمثل انهياراً واسعاً لقيمة الحياة نفسها عبر العالم برمته.
في هذا الوقت بالذات يصبح تأريخ الإبادة الأرمنية والكشف عن تفاصيل معاناة الشعب الأرمني مسألة في غاية الأهمية، تصدى لها الكاتب الأرمني فيكين شيتريان في كتابه «جروح مفتوحة: الأرمن والأتراك في قرن من الإبادة» (دار الساقي، ترجمة حسام عيتاني)، بالأدلة والشهود وبتوثيق موضوعي ضمن تحليل تاريخي لتلك الحقبة من التاريخ، التي شهدت نزاعات مرعبة بين الدول الكبرى سعت لتقاسم العالم، أدت إلى حربين عالميتين في غضون ثلاثة عقود، وعلى أنقاض ثلاثة شعوب على الأقل في أرمينيا وكردستان وفلسطين.
في هذا الكتاب يكشف يوشكين الحقائق والوثائق المتعلقة بالإبادة الأرمنية التي تمت على مدى سنوات، ولاحقت الهاربين من جحيم الإبادة في الصحراء السورية وعبر البحار لتكمل ما تم اقترافه بحقهم. قتلت الرجال والنساء والأطفال ومن لم يمت على أرضه تمت ملاحقة الهاربين والهاربات من الموت، فقتل من بقي حياً أو اغتصبت النساء أو خطفن وزوجن قسراً، وأجبر الآلاف منهم على اعتناق الإسلام، ومنعوا من التحدث بلغتهم، وتم بيع الآلاف من الأطفال للأسر التركية أو العربية، فيما العالم غارق في صمته وفي زيف الحقائق التي تم ترويجها لتبرير الإبادة أو طمسها.
قاوم الأرمن حينها للبقاء على قيد الحياة. أخفيت وثائق. قتل الشهود. سكت العالم إلا من نفاق استغل الإبادة الأرمنية لتبرير تقاسم الامبراطورية العثمانية أو ما دعي حينها «الرجل المريض». يشرح الكاتب في جروح مفتوحة الكثير من تفاصيل الإبادة ويضعها في إطارها التاريخي ويحكي عن الإنجازات المتواضعة والنضالات التي خاضها الأرمن، كما الإخفاقات والانحرافات في إطار نقدي علمي، ليضع اليد على تلك الجروح وليضع النقاط على الحروف أيضاً.
صدرت كتب عدة تؤرخ لحرب الإبادة، أو تنتج أدباً وفناً رفيعي المستوى أنتجها مبدعون أرمنيون وأكاديميون بارزون، وتحولت الكتابة عنها ومعها إلى نوع من المقاومة وأسلوب لإبقاء الدماء التي تم سفكها ساخنة في معرض المحاولات المتواصلة للإبقاء على الذاكرة الأرمنية حية. وقد أعاد اغتيال داعية المصالحة التركية- الأرمنية عام ٢٠٠٧ «هرانت دنك» في إسطنبول، إحياء الجدال في تركيا حول إبادة الأرمن العثمانيين، أفضى بحسب الكاتب إلى يقظة الأتراك على إرثهم الأرمني. فما الذي جعل المجتمع التركي يكتشف جريمة ارتكبت في أثناء الحرب العالمية الأولى بعدما كان قد نسيها تماماً؟ ولماذا استغرقت تركيا أكثر من قرن لتتعرف إلى الإبادة الأولى في العصور الحديثة؟ يقدم هذا الكتاب بعض الإجابات عن الأسباب التي حالت دون تحقيق العدالة طوال هذه المدة من الزمن، وعن ثمن الفشل الذي ندفعه جميعنا حين نسكت أو نصمت أو نغض النظر.
صدر عن دار الساقي كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٧ في ٣٨٢ صفحة مدعمة بفهرس للوثائق والمصادر مهم. ترجمه للعربية حسام عيتاني.