أيسوبوس.. "العبد" الذي ألهم سقراط وأفلاطون!
صدفة قادت مؤلف إلى التعرف إلى إيسوبوس الذي كان عبدًا ألهم فلاسفة كبارًا كسقراط وأفلاطون حتى طلبه ملك بابل ليكون مستشاره عندما ذاع صيته وكانت نهايته الاغتيال غدرًا بسبب دفاعه عن القيم النبيلة.
إيلاف من ملبورن: بعدما حملت إليّ صدفة جميلة نسخة من كتاب "بالصدفة... تجارب طبيب عراقي في قرى أوروبية" للدكتور رعد الحلّي، حملت إليّ صدفة جميلة أخرى نسخة من كتابه "أيسوبوس الحكيم المظلوم" الصادر في بغداد بـ 240 صفحة من القطع الوسط.
"الصدفة" أيضًا كما يقر المؤلف، هي التي عرفته على "أيسوبوس"، فهو عندما بدأ دراسته للطب في أثينا عام 1977 م، دعاه زميل يوناني إلى حفلة بسيطة في بيته، فصادف أن يطلق أحد الحضور مثلًا شعبيًا يونانيًا، وهو يتحدث عن شخص ما، بقوله: "إنه جاهل لدرجة أنه لا يعرف حتى من هو "أيسوبوس"؟. فضحك الجميع.. وبعدما سكتوا، سأل الدكتور الحلّي بعفوية شديدة: "ومن هو أيسوبوس؟". فضحك الجميع أيضًا، واعتبروها مداعبة ظريفة منه، وقد استطاع أن يخفي خجله مع ازدياد فضوله لكي يعرف فعلًا من هو "أيسوبوس".
عندما سنحت فرصة مناسبة، انزوى بصديقه صاحب الدعوة، وقال له.. صدقني أنا لا أعرف من هو "أيسوبوس".. فقال هل تعرف من هو أفلاطون فقال نعم.. ومن هو أرسطوطاليس فأجابه بنوع من الغضب بالطبع نعم، وسقراط، فأجابه باستنكار.. إنك الآن تسخر مني... فقال صدقني لا.. ولكن كل هؤلاء الفلاسفة العظماء كانوا يعتبرون "أيسوبوس" معلمهم الروحي ومُلهِمهُم في قضايا الأخلاق النبيلة، وكانوا يدرّسون لتلاميذهم قصصه الخرافية الفلسفية.. ثم قال "لا عليك تعال معي، وأدخله إلى مكتبة بيته الصغيرة واستلَ منها كتابًا، وقال له: اقرأه وستفهم".
حمل الكتاب عنوان (خرافات أيسوبوس)، وعندما بدأ بقراءته بعد عودته إلى محل سكنه تلك الليلة، وجد نفسه مسحورًا، بل مذهولًا ومندهشًا، منذ قراءته السطور الأولى، وكأنه اكتشف كنزًا ثمينًا. كانت القصص التي ضمها الكتاب قصيرة جدًا، ومكتوبة بأسلوب سلس وبسيط ومعبّر إلى درجة الإذهال، وتتطرق كلها إلى القيم والآداب والأخلاق الإنسانية، مجسدة الكثير من المعاني والقيم السامية رغم قصرها الشديد.
ويخبرنا الدكتور رعد الحلّي إنه كان بعد الانتهاء من كل قصة يشعُر وكأنه أمام اكتشاف جديد لذاته، وأنه تعلم فعلًا شيئًا جديدًا كان غافلًا عنه.. ويسأل نفسه كيف غفل عن هذا الشيئ ..؟؟. كيف لم يفكر به من قبل..؟.
لقد لفت انتباهه أن "أيسوبوس"، الذي عاش بحدود القرن السادس قبل الميلاد، لم يكن معروفًا بما يتناسب مع مكانته وعطاءاته خارج اليونان، على الرغم من أن غالبية فلاسفة اليونان الكبار، مثل أفلاطون وأرسطوطاليس وسقراط وغيرهم، يعدونه مُلهِمهم الأكبر، والنبع الذي شربوا منه نور فلسفتهم.. وأن قصصه الخرافية كان لها فضل كبير عليهم. كما لفت انتباهه أن "أيسوبوس" لم يكن معلمًا أو داعيةً. ولم يدّعِ في يوم ما أنه فيلسوف.. بل كان عبدًا مملوكًا، ولم يدرس العلوم أو الفلسفة على يد أساتذة من الفلاسفة الكبار، كما كانت تجري العادة آنذاك.. ولم يتعلم إلا من مدرسة الحياة القاسية الشاقة.
من هنا بدأت رحلة الدكتور رعد الحلّي مع كتابه "أيسوبوس الحكيم المظلوم"، والذي خصص 136 صفحة من صفحاته الـ 240 لنشر 110 قصص له اختارها من بين حوالى 230 قصة من القصص التي توصل إليها. وفي اتصال خاص مع المؤلف، أكد أنه بقي يبحث عن مصادر كتابه هذا ربما لأكثر من 34 سنة، بين النصوص الحديثة والقديمة، فوجد أنه من المستحيل أن تترجم النصوص القديمة حرفيًا، لأنها ستفقد كل جمالها ومعناها ومغزاها، ولأنها لم تكن نصوصًا أدبية، وإنما عبارة عن أفكار وخواطر تحتاج الكثير من الخيال، وفي بعض الأحيان تحتاج شرحًا وتعليقًا، فقام بترجمتها بتصرف، وألبسها لباسه، مع الحفاظ على جوهرها الأساسي.
ولدى حديثه عن قصة حياة "أيسوبوس" يقول إنه وجدها من أروع القصص، مع كونها أقرب إلى الخرافة، وأن أبرز المشاكل التي واجهته هي أن هذه القصة، لم تكن واضحة من البداية حتى النهاية (ربما كانت نهاية حياته هي الأكثر تدوينًا وتناقلًا)، لذلك جمع أطرافها من هنا وهناك، ولكن من مصادر موثوقة (وأساسها مصدر تاريخي مهم قديم). وتمت الترجمة بتصرف، لأنها منقولة بدون تفاصيل، لكن بإشارات مختصرة للغاية، ويوضح أن هذا الأمر كان متعمدًا (قصد الاختصار) حتى تبقى القصة متماسكة محفوظة في اختصاراتها ولا تقبل التحريف.
ثمة موضوع مهم يثيره الدكتور الحلّي في كتابه، هو أن الكثيرين وعلى مر العصور استعملوا واستغلوا قصص "أيسوبوس"، حتى إن بعضهم اشتهر وأثرى ثراء فاحشًا، من دون حتى ذكر بسيط لاسمه وفضله، ويشير في هذا الصدد إلى المخرج الأميركي المعروف بصناعة أفلام الصور المتحركة "والت ديزني"، فيقول إنه استخدم طرق وأفكار "أيسوبوس" باتخاذ أبطاله من الحيوانات وجعلها تتكلم وتتصرف ولها مشاعر وردود فعل الإنسان نفسها، وإنه صور في بداياته أفلامًا من بعض قصص "أيسوبوس" الخرافية، ومنها "قصة الأسد والفأر، قصة سباق السلحفاة والأرنب.. إلخ"... واتخذ من أبطال قصصه الحيوانات التي أحبها، وذكرها "أيسوبوس" مرارًا وتكرارًا، مثل الأسد والأرنب والثعلب والكلب والغزال، بل إن أهم أبطاله الفأر الشهير "ميكي ماوس".. كان أيضًا إلى جانب الأسد من أكثر أبطال قصص "أيسوبوس" ورودًا، واستطاع أن يحقق شهرة عالمية لا مثيل لها، ويجب ألا ننسى بأن الكثير من صفات الحيوانات التي نعرفها، مثل صبر وعناد الحمار أو مكر الثعلب أو جبن الأرنب أو غدر الذئب أو براءة الخروف... الخ.. قد جاءت ضمن محتويات قصص "أيسوبوس".
لقد عكس هذا الكتاب بجلاء ووضوح الجهد الكبير الذي بذله مؤلفه بحثًا ومراجعة واستشرافًا وصياغة. وبالعودة إلى الفصل الثالث منه، الذي يكرّسه المؤلف لقصة حياة "أيسوبوس"، نجده يؤكد أن هذه القصة بحد ذاتها، تكاد تكون أسطورية، وتحمل الكثير من الحكمة والتشويق.. وتروي تفاصيل كفاحه المرير من أجل نيل حريته، لأنه كان عبدًا مملوكًا ومجردًا من كل حقوق المواطنة "العبد في تلك الأزمنة لم يكن يملك الحقوق الإنسانية البسيطة، ويقتل في حال محاولته الهرب".
يحدثنا كيف أن "أيسوبوس" كافح لنيل حريته كفاحًا سلميًا بلا عنفٍ أو خرقٍ للقوانين، وكانت أسلحته تتمثل في عقله وذكائه وحكمته وصبره، حتى إن شهرته بدأت تصل إلى الناس، وكان لا يزال عبدًا. وبعدما حصل على حريته أخذ نجمه بالصعود والبروز، وذاع صيته، حتى طلبه ملك بابل لكي يكون مستشارًا له، وبقى كذلك مدة تقارب من 20 عامًا، وأكثر، ولم يرحل من هناك، إلا بعدما أجبر، وبعدما تآمرت عليه حاشية الملك والعسكر، فاضطر للرجوع إلى وطنه اليونان، بعد هذا الغياب الطويل، وكانت شهرته قد أصبحت واسعة جدًا، وأخباره على كل لسان.. وأخذت الناس تترقب الجديد عنه، وراحت المدن اليونانية الكبيرة تتنافس على دعوته إلى زيارتها وتكريمه.. حتى جاءت نهايته المأساوية، وقتل غدرًا وبطريقة بشعة للغاية، جزاءً لدفاعه عن الحق والأخلاق النبيلة.