الكوميديا البشرية كما يراها الكاتب البريطاني ويليام بويد
«على الكاتب أن يكون مشعوذاً يبحث عن الحقيقة داخل الكذب»، يقول الروائي البريطاني ويليام بويد على لسان إحدى شخصياته. وهذا ما يفعله بنفسه في رواياته الغزيرة التي، لولا اختلاف ديكورها وشخصياتها من نصّ إلى آخر، لظننا أنها رواية واحدة نظراً إلى حبكه إياها بالخيط المخملي نفسه ورفعه صروحها بذلك النثر الحاذق والرشيق الذي تشكّل الطرافة تابله الرئيس.
ومن حين إلى آخر، يحتكّ بويد بالنوع القصصي، كما تشهد على ذلك مجموعاته العديدة، وآخرها «أحلام ميتاني ميلموث» (2017) التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «سوي» الباريسية بعنوان «كل هذه الدروب التي لم نسلكها»، وتتضمن تسع قصص تختلف في حجمها وحدّتها لكنها تتقاسم تأطيراً سينماتوغرافياً مدهشاً وموهبة صاحبها في تلخيص أقدارٍ مختلفة عبر تركيز عدسته على تفصيلٍ غير مرئي، على حركةٍ بريئة في ظاهرها، على قبلة مسروقة أو على نبضات قلبٍ عاشق أو قلِق.
«مخيّم ك 101» هي من دون شك القصة الأكثر رقّةً في هذه المجموعة، ونتعرّف فيها إلى شاب ألماني يؤدّي خدمته العسكرية في كتيبة تابعة للأمم المتحدة ومتمركزة في بلدٍ أفريقي، حين يشاهد في إحدى الليالي قرداً فقد حديثاً واحدة من قدميه بسبب لغمٍ أرضي، فيسعى جاهداً إلى إنقاذه. وحين يفشل في ذلك، يتملّكه شعور بالغضب والعجز يدفعه، لدى عودته إلى وطنه في إجازة، إلى محاولة تحرير قردٍ صغير قيّده صاحبه الموسيقي بحبلٍ مربوط إلى آلة الأورغن التي يعزف عليها في الهواء الطلق. أما كيف سينجح في هذه المهمة، فنترك للقارئ متعة اكتشافها بنفسه.
في القصص الأخرى، يستعين بويد بتجربته ككاتب نشط أيضاً في ميدانيّ المسرح والسينما لرسم شخصيات يعرفها عن كثب: نقّاد، كتّاب، ممثلون، مجمّعو قطع فنّية، مخرجون... باختصار، شخصيات تبدو جميعاً في حالة محنة أو ضياع بسبب ماضيها أو المستقبل الذي ينتظرها. ففي «الرجل الذي كان يحبّ تقبيل النساء»، يقدّم إلينا تاجر فنّ باسم لودو أبيرناثي كان في الماضي زير نساء، قبل أن يفرض على نفسه سلوكاً عفيفاً من أجل إنقاذ زواجه (الثالث). لكن العفّة لا تعني في قاموسه الامتناع عن تقبيل الشابات اللواتي تعجبنه. ولذلك، حين تسنح له الفرصة، نراه يمارس في السرّ هذه المتعة التي لا يرى فيها فعل خيانة لزوجته الحامل... إلا حين ينكشف أمره.
القصة التي تحمل عنوان «عزيزي السيد ماكفارلين» كتبها بويد على شكل رسائل يوجهها مخرج سينمائي تارةً إلى حبيبته وتارةً إلى منتج أفلامه وتارةً إلى الموظّف الذي يشرف على رصيده في البنك. ومن نبرة هذه الرسائل ومضمونها نحزر المشكلات الجمّة التي تواجهه وحالته النفسية المتأرجحة بين رقّة فائضة وغضب عارم. وفي «إهانة»، نتعرّف إلى الكاتب إيف هيل الذي يتعرّض، لدى صدور روايته الرابعة، إلى انتقادٍ لاذع على يد صحافي يعمل في مجلة «تايمز» ولم يجد في صفحات هذا الكتاب سوى «محيط عكِر من الملل اللامتناهي». ولتجاوز قرفه من هذا المقال المهين، يقرر هيل الهروب إلى مقاطعة دوردونيه الفرنسية حيث يستقر في فندق تشاء الصدف أن يقع فيه على هذا الصحافي بالذات. فرصة لن يفوّتها لإعداد خطة انتقامٍ من هذا الأخير أقل ما يمكننا أن نقول فيها هي أنها ستكون رهيبة مثل وجبة باردة، مثل المحار الذي يقدّمه الفندق لنزلائه.
بعد ذلك، يضعنا بويد تارةً أمام عشيقين سابقين يرجعان في الزمن، لدى لقائهما صدفةً، من أجل فهم أسباب فشل علاقتهما، وتارةً أمام شخص مصاب بهوس السرقة يعيد قراءة حياته في زنزانته من خلال الأشياء التي سرقها، وتارةً أمام ممثل أفلام «أكشن» يعيش مغامرة كابوسية على أطراف سكوتلندا، لكن هذه المرة ليس ضمن تصوير فيلم خرافي. قصة تستحضر في حبكتها فيلم هيتشكوك «39 درجة» وتفتننا سواء بطابعها العبثي أو بحسّ الإثارة فيها أو بالسخرية الطريفة من شخصيتها الرئيسة التي نراها تستعين بالأدوار السينمائية التي أدّتها من أجل الخروج من ورطتها. وبالتالي، نعثر في هذا النص على ميل بويد إلى أدب المغامرة وإلى توظيفه جميع عناصر أفلام الـ «أكشن» في بعض رواياته، ونفهم لماذا اختير عام 2013 لكتابة سيناريوات أفلام جايمس بوند، بعد يان فليمينغ.
أما القصة الأطوَل في المجموعة فتُدخلنا إلى أحلام الشابة ميلاني ميلموث وخيباتها سواء في الحب أو في علاقاتها بالآخرين أو في حياتها المهنية. وفي هذا السياق، نراها تتخيّل نفسها كاتبة شهيرة إثر محاولتها كتابة رواية سيرذاتية بعنوان «ملكة في وطنها»، ثم ماثلة في ملصق سينمائي يكسو جدران لندن لدى اختيارها من أجل تأدية دور صغير في فيلم مستقل، فمصوّرة فوتوغرافية شهيرة لممارستها هذا الفن من حين إلى آخر أثناء تجوّلها في المدينة، قبل أن تنتهي في خاتمة المطاف على الشاطئ متأمّلةً مسيرة حياتها الفاشلة.
وسواء في هذه القصة أو في سائر قصص المجموعة، يسعى بويد إلى تصوير تلك اللقاءات الصدفوية التي تجعل الماضي يطفو على سطح الذاكرة، وتلك القرارات المتهوّرة التي تغيّر مسار حياةٍ بطريقة لا رجعة فيها، وتلك التردّدات أو حالات سوء الفهم التي لها أحياناً عواقب وخيمة، وهو ما يجعل الواقع في كل تعقيده ينعكس في مرآة فن القصة الذي يتقنه، ومعه جميع ألوان الحياة. وفي طريقه، لا يتردد الكاتب في انتقاد سوق الفن المعاصر، «الفاسدة أكثر من المافيا»، وعالم السينما الذي لا يرحم وزيف العلاقات التي تُنسَج في فضائه، من دون أي ينسى لندن، «عاصمة الإذلال بامتياز».
باختصار، قصص مليئة بالطرافة والحساسية والمفاجآت، تتجلى فيها النظرة الثاقبة والماكرة التي يلقيها بويد على عالمنا، وموهبته الفريدة كقاصّ ولكن أيضاً كرسّام بورتريهات بصرية وسيكولوجية لأبطال مثيرين للحزن أو الشفقة، حين لا يثيرون الضحك أو السخرية. وإذ تشكّل طريقة توظيفه أسماء العلم في هذه المجموعة تحية خفيّة إلى مواطنه العملاق ألدوس هاكسلي، تفسّر الأساليب المختلفة التي يعتمدها من أجل كتابة قصصها (رسائل من طرف واحد، اعترافات، دفتر يوميات...) المتعة الكبيرة المستشعَرة لدى قراءتها.