الكتابة الروائية الثنائية... مغامرة أدبية لا يتحمس لها النقد
هل يمكن شخصين يملكان تجارب مختلفة وأفكاراً متباينة ورؤية مغايرة للكون، أن يكتبا عملاً أدبياً واحداً متجانساً، متكاملاً خالياً من النتوءات؟ حتماً سيندرج ذلك تحت نطاق المغامرة الأدبية، وربما كان أبرز من أخذ على عاتقه مسؤولية الخوض في هذه المغامرة طه حسين وتوفيق الحكيم في روايتهما «القصر المسحور» (1936م)، وعبدالرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا عبر روايتهما «عالم بلا خرائط» (1982م). وإلى هاتين التجربتين، ظهرت على استحياء تجارب أخرى، منها ما صدر في لبنان: «ربيع المطلقات» لنزار دندش ونضال الأميوني، و «يوميات آدم وحواء» لنزار دندش ونرمين الخنسا، و «ملك اللوتو» لجهاد بزي وبشير عزام. وفي سورية: نشر عامر الدبك وبهيجة مصري إدلبي روايتهما «ألواح من ذاكرة النسيان» عام 2002، وعبد اللطيف الحسيني وغسان جانكير مؤلفهما «في رثاء عامودا». وفي العراق: أصدر العراقيان صبيحة شبر وسلام نوري رواية «الزمن الحافي».
وفي الآونة الأخيرة، صدرت روايات عدة وفق النهج ذاته، منها «في مقام العشق» و «العالم على جسدي» للمصريين يوسف نبيل وزينب محمد، و «أنا الآخر» للبنانية سونيا بوماد والإماراتي محمد سيف الأفخم، و «رولر كوستر» لمحمد جمال وهيثم نصار. وفي بداية العام 2018 صدرت «خطايا آدم» لسامي ميشيل وأحمد مسعد، و «كلارا»، لحنين الحسيني ومنال سالم.
كتابة معقدة
وفي محاولة للوقوف على هذه المغامرة الأدبية، وفهم كيفية التعاون الثنائي في عمل يفترض أنه فردي، تتحدث الكاتبة الروائية سونيا بوماد عن تجربتها المشتركة مع محمد سيف الأفخم، وفي البداية توضح أن الرواية كانت عبارة عن فكرة طرحها الأفخم عليها، بينما قامت هي بكتابتها كلياً، بالرجوع إليه والمناقشة معه أثناء الكتابة. وتضيف: «طبعاً ليس من السهل على الكاتب أن يصنع عالمه ضمن إطار محدد رُسم له مسبقاً، ولكن ككل التحديات، والتجارب من أهم آثارها، أنها تنمي فينا إمكان الحوار والإبداع، وتقبل فِكر الآخر ودمجه مع ما نملك من أفكار، لنصل في النهاية إلى القارئ بأدب راق يستحقه».
ويبدو اعتزازها بالتجربة واضحاً، عندما تقول: «إن التجربة أغنت مسيرتي الأدبية، على عكس ما توقع البعض، وبرغم المشاكل النفسية التي واجهتها أثناء الكتابة، وخضوعي لعلاج نفسي بسبب تشابك مصائر أبطال الرواية بين التوحد والاستنساخ البشري، إلا أن النجاح الذي حققته بعد أسابيع من صدورها خلال معرض القاهرة الدولي للكتاب، جعلني أشعر بالسعادة، وأتمنى أن تتبع تجربتي بتجارب عربية أخرى تُحفز الشباب على المشترك، كي ينفتح على العالم وعلى الآخر الذي من الممكن أن يكون شريكاً له في الإبداع». يوسف نبيل، يحكي تجربته قائلاً: «بدأ الأمر بتنامي تفاهم وتلاق فكري وشعوري بيني وبين زينب بطريقة مدهشة. قبل انخراطنا في الكتابة المشتركة بمدة طويلة كانت تراجع بعض أعمالي الإبداعية وتدلي بملاحظات كثيرة. هناك اختلاف بيني وبين زينب في طريقة تعاملنا مع الأدب، ففي حين كنت أركز على الأفكار محاولاً تضمينها في العمل، كانت زينب تهتم أساساً باللغة بحكم دراستها في كلية الآداب، وكذلك بحكم ثقافتها الدينية القوية وعملها لمدة في مجال تحقيق المخطوطات الصوفية». ويتابع: «في إحدى المناقشات طُرحت فكرة التعاون المشترك عندما شعرنا بأن هناك أفكاراً مشتركة نود أن نجرب التعبير عنها سوياً. كنا نتفق على الخطوط الرئيسة، وسير الأحداث، ويترك كل منا للآخر حرية تناوله ومعالجته أجزاء بعينها داخل العمل، ثم يقوم كل منا بمراجعة ما كتبه الآخر وإضفاء بعض التغييرات الأسلوبية عليه بحيث يقترب الأسلوبان ويمتزجان. وكان اختيار الأجزاء والأفكار يتم في شكل حر تماماً. تطوّرت تقنية الكتابة المشتركة تدريجياً. في البداية جرّبنا في عملنا الأول «في مقام العشق» ما هو أسهل... كانت الرواية تُروى من وجهة نظر صوتين: بطل– بطلة، فقام كل منا بكتابة إحدى الأصوات ثم قمنا بالمزج الأسلوبي بين كتابتينا، ولكن الأمر تطور جداً في التجربة الأخرى التي أعتز بها «العالم على جسدي». احتاج العمل إلى قراءات تاريخية ونفسية، وإلى اهتمام شديد باللغة والأفكار على حد سواء، وكان يتقدم في شكل مدهش لكلينا».
ويأسف يوسف نبيل على عدم تناول النقاد تجربته مع زينب، قائلاً: «لم يتناول حتى الآن أي ناقد تلك التجربة. بعض النقاد رفض الفكرة من الأساس، وآخرون اهتموا في النهاية بالمنتج الإبداعي بغض النظر عن كتابته بواسطة اثنين من الكُتاب. ولكن النجاح الحقيقي للرواية كان من القراء العاديين، بالإضافة إلى تحولها عرضاً مسرحياً لفرقة «ولسة» للفنون الأدائية». ويروي سامي ميشيل تجربته مع أحمد مسعد في كتابة رواية «خطايا آدم»: «الصداقة التي تجمعنا كانت السبب في التعاون المشترك، وهي السبب أيضاً في الانسجام الذي حدث بيننا أثناء الكتابة، برغم أن القارئ المحترف سيجد فروقاً طفيفة في اللغة عند قراءة الرواية، إلا أنها متجانسة إلى حد بعيد من حيث الأحداث».
ويتابع: «بدأنا التعاون من خلال إعداد حلقات برنامج إذاعي بكتابة قصة مكونة من جزأين تحمل عنوان «الراصد»، بعد ذلك اشتركنا في كتابة مسلسل «خطايا آدم»، الذي عُرض على موقع اليوتيوب في شهر رمضان 2017م، وكان نجاحه هو السبب في تحويل السيناريو عملاً روائياً مطبوعاً، فقمنا برسم خطوط عريضة للرواية، ووضعنا خطة عمل، وقمنا بتقسيم كتابة أجزاء الرواية بيننا». ويضيف: «بالطبع اختلفنا في نقاط كثيرة، لكننا وبالمناقشة استطعنا التغلب على مواضع الاختلاف، وبعد انتهاء الكتابة، أرسلنا مخطوطة الرواية إلى أصدقائنا الكُتاب للاستفادة من آرائهم، قبل الإقدام على النشر». وينهي ميشيل حديثه بأن تجربة الكتابة المشتركة ممتعة للغاية، بخاصة مع نجاحها، واستقبالها من القراء في شكل أسعدني شخصياً».
فردية العمل الأدبي؟
من جهة ثانية حاولنا استطلاع آراء أدبية أخرى حول تلك المغامرة الروائية، فمثلاً الروائي محمود الورداني، لا يُفضل هذا النوع من الكتابة، ويعتقد أن النص الأدبي عمل فردي تماماً، وليس له خطة تقبل القسمة على شخصين: «العمل الأدبي قائم على العصف الذهني والنفسي، والتجارب والخبرات، التي يسردها المبدع بالتتابع من دون أن يُدرك ما يكتبه، فهو يترك نفسه للكتابة وفقط، ولذلك لا أتقبل نفسياً فكرة الكتابة المشتركة، ولم أجرؤ على قراءة رواية من هذا النوع، بما في ذلك الرواية التي كتبها عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا، فبرغم أنهما مبدعان كبيران، إلا أنني لم أستطع قراءة روايتهما حتى النهاية». ويضيف: «الكتابة اكتشاف لعالمك الداخلي والخارجي، ومشاركتها مع آخر يقلل من قيمة العمل، فحتماً سيخرج غير متجانس، وقد نجد فيه جزءاً قوياً أدبياً، وجزءاً ضعيفاً، والأفضل أن كل كاتب يتحمل نتيجة ما يكتبه بمفرده».
ويعتقد الناقد حسين حمودة أن تجربة الإبداع المشترك، يمكن أن تكون، ناجحة تماماً، في كثير من الإبداعات التي تقوم على نوع من المشاركة الجماعية، كما هو الحال في السينما أو المسرح. أما الأدب فهو إبداع فردي، والمشاركة في كتابته تثير أسئلة عدة حول مدى التجانس في مساهمة كل مبدع مشارك في هذه التجربة، وحول النقلات الأسلوبية من مبدع لآخر، أو من مبدعة لأخرى، وحول القيم المشتركة، أو غير المشتركة، بين المساهمين أو المساهمات في هذا العمل.
ويتابع: «لكن الإبداع لا يقف طبعاً عند أي حد، ويمكن المبدعين الذين يخوضون هذه التجربة أن يفكروا في حلول إبداعية خاصة، كأن يكتبوا عملاً متعدد الأصوات، وتكون فيه مفاتيح ما، تشير إلى كل صوت من هذه الأصوات، وأن يرتبط كل صوت بمبدع من المبدعين المشاركين». ويتابع: «مغامرات الإبداع لا تنتهي أبداً، ولكن يبقى الحكم على قيمة ما تقدمه رهناً باستجابات القُراء. وعلى أي حال فالمغامرة في هذه الوجهة الإبداعية الجماعية، لها ما يبررها، ولها أيضاً ميراثها السابق القديم في أعمال ساهم فيها كُتاب مثل جبرا إبراهيم جبرا، وعبد الرحمن مُنيف، وطه حسين، وتوفيق الحكيم».
ويقول الناقد محمود الضبع: «الأهم في نموذج جبرا إبراهيم جبرا وعبدالرحمن، ليس محاولة البحث عن المتفق والمختلف وفروق الأسلوب الأدبي، وإنما الكشف عن رؤيتنا المشتركة للعالم المحيط بِنَا، والعالم الذي تجسده الرواية، إذ يكشف هذا النموذج من الكتابة إلى أي مدى صار العالم مكشوفاً أمامنا، وبالتالي لم تعد رؤيتنا الفردية هي الحاكمة له، وإنما القراءة النوعية التي يمكن أن يشترك فيها أكثر من فرد ويعبرون عنها».
ويختتم: «من جهة أخرى تعد الكتابة المشتركة نوعاً من أنواع التجريب، ومن وجهة نظري أشجع مثل هذا النوع من الكتابة لأنه يكون مبنياً على حالة من الجدال الفكري والنقاش والحوار بين أكثر من مؤلف وليس منغلقاً على رؤية أحادية مهما كان اتساع أبعادها، وما أحوجنا في فكرنا العربي لمثل هذه الحالة التي تستطيع مقاربة الأفكار على نحو قد يفتح الباب أمام دراسات ووجهات نظر مشتركة».
ويقول عيد إبراهيم، صاحب دار «إبداع» التي نشرت روايتي «خطايا آدم»، و «كلارا»: «فكرة الرواية المشتركة مخاطرة ومغامرة كبيرة بالنسبة إلى الناشر، لأن القارئ لديه فكرة مسبقة سلبية تجاه العمل المشترك قبل قراءته، ولذلك فهذا الأمر يحتاج إلى تأهيل القارئ أولاً لتقبل هذا النوع من الكتابة، عبر عملية تسويقية كبيرة، لكن تجربة النشر لعمل مشترك أسعدتني، ولا أمانع في تكرارها».