عالم محمد الفخراني ب «ألف جناح»
تنهض رواية «ألف جناح للعالم» (الكتب خان) للمصري محمد الفخراني على منهجية إنشاء خاصة جداً ومناقضة حتى لآلية بناء روايته السابقة «فاصل من الدهشة». ومن ثم لا يكون من شأن رواية «ألف جناح للعالم» أن تعرض لواقع مُعْطَى أو قَبْلي أو التعبير من خلال أفكار مسبقة بلغة نصف مهضومة أو سبق هضمها، بل أنها تجعلنا نقف أمام محاولة إعادة خلق الواقع بنقله من صعيده الحسي إلى صعيد خيال خاص بها وحدها، تعبيراً وأسلوباً وبناءً.
كأنك به وبالعمل معاً يقصدان ضرب ما قال به جيرار جينت «من المستحيل تصور نص بكر» فكل نص روائي مستفيد استفادة ظاهرة أو خفية، واعية أو لا شعورية من نصوص الآخرين. هذا ما تقطع به تجارب الدخول إلى نصوص كثيرة نتناولها بالقراءة ونعقد مقارنة بينها، من حيث البنى واللغة مع نصوص روائية أخرى.
إذا أردنا على مضض أن نحدد تيمة هذه الرواية لإمكان السير في دهاليزها المتشابكة المعقدة وحل شفراتها، سنراه يعمد إلى إن باحِثين في الجيولوجيا، هما سيمويا أكسيلينور، ودفوماليمورا، يُكلفان برحلة استكشافية من قبل جهة حاكمة- لا تفصح الرواية عن طبيعتها على أي نحو فلا هي دولة أو هيئة عالمية أو مؤسسة- وقبيل أن يبدأ رحلتهما تقابل «سيمويا» فتاة هي «بينورا» في الطريق تعطيها مخطوطاً عنوانه «أوراق الليل»، وتطلب منها أن تقرأه جزءاً جزءاً في ليل كل يوم، ثم تختفي.
هنا تصبح الرواية روايتين تسيران في خطين متوازيين، ويتبادلان المواقع فصلاً للرحلة الاستكشافية، والرواية في هذا الجزء تبقى واقعية بمنطق العمل. تقع أحداث فصولها في النهار، ثم يعقب كل فصل فصلٌ آخر للرواية الموازية يحمل عنواناً ثابتاً بامتداد العمل هو «الليل». يقدم سياحة ليلية تقوم بها «بينورا» وجدتها بحثاً عن النهار. وهي رواية خيالية تعايشها «سيمويا» وهي تقرأ تلك الأوراق.
وبينما تتعلق الرواية الأولى بما لحق بالعالم من تغير في المكان وطبيعته الجيولوجية، مثل ذلك الغيض الذي لحق بأحد البحار حتى انتهى إلى صحراء قاحلة، سنجد الرواية الثانية تتعلق بما أصاب العالم من تغير في طبيعة الزمن، حيث سيطر الليل على العالم ونفى النهار عنه، وخرج الناس ومنهم «بينورا» وجدتها العجوز بحثاً عنه في الطرقات والحدائق.
وفي ما عدا سيطرة مفهوم الرحلة أو الارتحال على الروايتين، سنجد أنفسنا أمام مجموعة من الثنائيات المتناقضة (الصحراء التي يمسك بها الموت نهاراً/ في مقابل البحر الذي يمسك به صخب الحياة ليلاً، المكان/ في مقابل الزمان). حتى طبيعة الرحلة في الروايتين، إحداهما (عملية علمية) والأخرى (نفسية وجدانية). وبينما تُمسك الغرابة بعالمي الروايتين معاً وتمدهما بحالة من دفق خيالي يبتدع عوالم غير مسبوقة كأنّ الكاتب أخرجها من رحم المستحيل، عوالم شاء لها أن تكون بلا مثيل في أي من المرجعيات سواء الروائية أو الميثولوجية. وأنظر إلى ذلك الاقتباس من أجواء الرواية (ص 254 ): «رأيا شابة تجلس على الأرض، صدرها مشقوق شقاً صغيراً جهة اليسار، قلبها النابض في حِجرها، تخيطه بتأن، تلمع بين أصابعها إبرة فضية صغيرة، مشبوك بها خيطٌ أزرق من النايلون يمتد خلفها إلى ما لا نهاية، لم يكن قلبها ينزف، فقط تفوح منه رائحة كأنها مزيج من كل زهور العالم، وتظهر على قمته فقاعة صغيرة ينبض منها الدم ويعود إليه، لا يسيل على جدرانه».
وتدعم هذا التدفق لغة منسابة محملة بالألوان على اختلاف أطيافها والروائح العبقة الأثيرة والأصوات والموسيقى والطعوم وبخاصة الشكولاتة، فتسود حالة من الاحتفال الصاخب بالحياة بطول الروايتين وعرضهما، متخذة مفهومي الإذابة والتفاعل صعيدين لكل الأشياء. فتذوب الأصوات في الروائح والطعوم، وتمتلك الكائنات فيها كل قدرات الحركة والتسامي عن طبيعتها الذاتية. هناك يمكن للأسماك أن تغني، «انتقل دوفو وسيمويا إلى أقرب نقطة للبحر، سمعا غناء الأسماك يصعد من القاع، غناء له صدى بعيد كأنه ذكرى حلم» (ص 84)، و «تحوّل سقف الدنيا إلى أمواج سما/ بحرية زرقاء، يسبح القمر فيها لبعض الوقت بحالته الطبيعية ثم يتحول إلى شاب له جسد زلق مثل سمكة» (ص100). ويمتد مفهوم الإذابة لينتقل من محاولة جعل المضمون شكلاً والشكل مضموناً، كما في الموسيقى، إلى الزمن فينقلب الماضي إلى حاضر أو مستقبل أو أيهم إلى الآخر، بينما تظللهم حالة التفاعل الفوّار لتطاول كل شيء: الجمادات والإنسان والأشجار والحيوانات... وهنا تؤكد- طبقاً لمنطق العمل- وحدة الوجود. وهو في سعيه المحموم ولعبه الفني العابث يمتح من بئري السوريالية واللامعقول بما يمنحه كل الحرية لإعادة ترتيب العالم على نحو أكثر حيوية وجمالاً، ويستثني القبح والفوضى الفنيين. فحتى ما هو قبيح أو مفزع، طبقاً لمفهوم الواقع يقدمه النص في صورة مدهشة وموحية. هكذا يظل يتلاعب ويلعب ويعزف ويقسم ويصعد بالرواية والقارئ إلى مناطق وشخوص وروائح وأصوات لم يرها أو يسمع بها يوماً.
ومع ذلك كله، يظل هناك بعض النقاط التي أضعف من قوة هذا العمل، نوجزها في هذه العجالة:
السقوط في حالة من الالتذاذ والولع باللغة والوصف المسهب في اتجاه ذي بُعد واحد، ما جعل العمل ينمو عرضياً، فلا يصعد إلى أي نقطة من الصراع.
قصة الحب بين سيمويا أكسيلينور ودوفو ماليمورا قصة استيتيكية جامدة ومجمدة وافتراضية لا تنمو بداخلهما لتتجاوز الافتراض الذي تفترضه سيمويا بأنها تحبه، وأنها واثقة من أنه يحبها بلا أي دليل أو تحقق في واقعهما على أي نحو سواء أكان روحاً أو جسداً.
أما نقطة الضعف الأساسية في هذا العمل فتكمن في الإسهاب، ليس بمعنى الاستغراق في التفاصيل، بل بمعنى إعادة إنتاج الصور الكلية والفصول نفسها، وكان من الأجدى استثناء بعضها ليقلل من أثر ذلك ومن الجهد الذي يبذله القارئ في قراءة عمل خاص جداً، فلا يشعر بالملل. ومع ذلك؛، يظل هذا العمل واحداً من الأعمال الروائية شديدة التميز، جِدة وبناءً ولغةً وأسلوباً التي قدمها روائيو الموجة الجديدة في مصر والعالم العربي في السنوات الأخيرة.