تحولات المجتمع العربي في مرآة السرد
يشكِّل «صراع الإرادات» محوراً مركزياً في رواية «العرس» للروائي فتحي إمبابي، ويحدد مسارات السرد والشخوص، سواء في تشابكها مع واقعه العائلي الخاص، أو مع السياق الخارجي العام، حيث فضاء الواقع الليبي، بين مطرقة الماضي وسندان الحاضر، المتطلع إلى خُطا أكثر ثباتاً وقوة نحو المستقبل، خصوصاً بعد طفرة للنفط وقيام ثورة الفاتح من سبتمبر (أيلول)، ما أحدث ربكة وخلخلة في بنية المجتمع، انقلب على أثرها السلم الطبقي رأساً على عقب، فيما ظهرت طبقة جديدة صعدت بقوة إلى عالم المال والثروة، مستغلَّة وتيرة المتغيرات السريعة المتلاحقة في المجتمع.
يكرس هذا الصراع لفكرة الاستقلال بالقوة عن ما يمكن أن أسميه بـ«القوى الكابحة» أو المعطِّلة، حتى لو أدى ذلك إلى البطش بها، بداية من سلطة الأب والعائلة والمجتمع حتى العلاقات الزوجية، فالأشياء عادية ومستقرة تحت قشرة الإرث والأعراف، طالما تصب في صالح خدمة الإرادة الغاشمة الأقوى، التي يجسدها هنا «عمر» بطل الرواية الابن الأكبر لعائلة مفتاح البوزوي، الذي أصبح مثالاً على هذا الصعود المفاجئ.
خارج المظلَّة الليبية يمتد هذا الصراع سياسياً مجسِّداً أزمة النخبة العربية في صراعها من أجل الحرية بكل أشكاله: الراديكالي والحزبي، العلني والسري، ضد الأنظمة الفاسدة، وفي فترة السبعينات التي حفلت بكثير من الانتكاسات كان في صدارتها هزيمة 1967 وانهيار الحلم القومي، وما أعقبها من صدامات دامية بين القوى الطليعة وتلك الأنظمة، خصوصاً في سوريا ولبنان وفلسطين.
تشكل عائلة مفتاح البوزوي راعي الغنم، صحاب كسارة للحجارة في جبل درنة وشاحنة وحيدة، بسيرتها ومآلاتها وعلاقتها الأسرية المعقدة النواةَ الأساسية أو الرحم الأم لهذه الرواية... زوجتان وأربعة أبناء وفتاتان، أكبرهم عُمَر الشاب النافر، لم يكمل تعليمه بالمرحلة الثانوية، على عكس إخوته، ناصر وونيس وحميدة، حتى عائشة وصديقة.
يتمرد عمر على سلطة العائلة مجرباً مخاطرة اللعب مع الحياة في واقعه الليبي، الذي عاد إليه من لندن خاسراً حلمه في تعلُّم الطيران هناك. ويشكل الواقع الجديد بتحولاته السريعة المتلاحقة حافزاً للتعويض والانتقام من فشله في إكمال تعليمه.
تستعرض الرواية صعود نجم عمر في خطوط سردية شيقة، تلعب فيها تقنية المونتاج دوراً أساسياً في صنع حالة من التوازي والتقاطع والتجاور، والربط السلس بين مرايا الماضي والحاضر معاً، ليصبح ما يطرأ على العائلة من تحولات اجتماعية معادلاً رمزياً موازياً لما يحدث في الواقع الليبي، وخارجه أيضاً.
كخطوة أولى لحلم الثراء يؤسس عُمَر شركة عقارية مشتركة مع أحد معارفه من أصحاب الخبرة، وبحيل الدهاء والنصب، يخدعه ويعرض عليه الزواج من ابنته «ثريا» الشابة الجميلة، متخذاً الزواج قنطرة للبطش به والاستيلاء على الشركة، ويتحقق له ذلك، يتزوج وتؤول الشركة له وحده وسرعان ما تكبر وتتسع، حتى تُعد من أكبر ثلاث شركات للمقاولات في شرق ليبيا.
تحت مظلتها يدير عمر شبكة علاقات جهنمية متشعبة، مع الجيش ورجال السياسة والمال والبنوك، مستغلاً المناخ السائل من مضخة النفط... تجذب الشركة ببريقها خبراتٍ مهنيةً من جنسيات شتى، فيعمل فيها مهندسون ومهندسات، ورجال إدارة، وأرباب حرف، من مصر وسوريا، والسودان ولبنان وفلسطين، وغيرها.
تتحول الشركة إلى بوتقة، تشرئب فيها أحلام أصحاب الإرادات الصغرى، هؤلاء الغرباء الذين يعانون من الغربة عن الوطن، المشغوفين بأطماع الحياة، وفي الوقت نفسه يتحاشون انقلاباتها المباغتة، ولو بقليل من المذلة والمهانة.
تكشف وتيرة العمل بالمؤسسة مساحات مهمشة داخل النفوس، بفعل سطوة القوة، من أبرزها قمع الوعي بالذات، والوعي بالحب والكرامة، وحرية الاختيار... ما يدل على ذلك مشهد المهندسة «مريم» السورية التي تتصدى لصلف عمر صاحب المؤسسة، وترد الصاع صاعين على غروره وإهانته لها، كاشفة جهله وحماقته، مفضلة الاستقالة عن العمل تحت براثن سلطة غاشمة وفاسدة.
على العكس من ذلك تماماً يتسم موقف زوجها المهندس زياد، الذي يقبع في الظل، مبرراً الازدراء والإهانة بأنهما من الأشياء العابرة التي يجب أن يتحملها دون ضجر، حتى يحقق حلمه في الثراء، ويعود لبلاده.
في هذه الأجواء تلخص جملة عابرة، مفتاح شخصية عمر، واضعة إياه في خانة «السارق الأمهر»، حين يقول معلقاً على بعض السرقات الصغيرة التي تم اكتشافها داخل الشركة من بعض العاملين بها: «اللي عايز يسرق ييجي نعلمه كيف يسرق».
يستعرض عمر قوته تحت مظلة الثراء الفاحش، فينقل العائلة من مسكنها البسيط الفقير بالبادية، ويبني لها فيلا فخمة من عدة أدوار بموقع متميز بمدينة بني غازي، ويصبح هو رب العائلة، الذي لا ينازعه أحد، المسؤول عن مقدراتها، وإدارة دفة حياتها، كما يرى ويهوى، ووفقاً لمصالحه في المقام الأول؛ فهو صاحب القرار الأول والأخير، هنا وهناك، حيث يتحكم في مصائر عائلته والعاملين في شركته. يمكن أن نرصد في هذا السياق مشهد «العرس» (زواج شقيقة ناصر)؛ فهو الذي اختار له زوجته، وتكفَّل بكل مستلزمات العرس، جاعلاً منه كرنفالاً لاستعراض القوة والنفوذ.
تكشف اللعبة الروائية عن ذات ساردة (الكاتب نفسه) تتمتع ببصيرة كاشفة محنكة، قادرة على التوغل في أدغال النفس البشرية، وتعرية المتناقضات التي تحفّ بها زمنياً ومكانياً، مُسرِّبة في طوايا السرد أفكاراً تشارف الحكمة أحياناً، لها وقع الفلسفة، وخبرة التأمل في الحياة من زوايا خاصة... تتواتر هذه الخبرة داخل فصول الرواية على شكل كتل نصِّيّة، منبهة ومحفزة بأن خلف ما يجري في الواقع، أشياء أخرى أكثر درامية وتعقيداً تحتاج إلى بصيرة أبعد مما يجري.
فنرى عمر يلحُّ على زوجته بأن تخلع «الجرد» (اللباس الليبي التقليدي)، حتى تأخذ سُنّة المجتمع الجديد. يعلق الراوي على هذا التحول بنبرة تكسوها مسحة صوفية (ص57) قائلاً: «نحن في لحظة قد تدوم ساعة أو عدة سنوات، قد نشعر بالصفاء، إن جاز وجود هذا التعبير عن معنى السعادة، ورغم أن الجميع قد أفنى عمره في حرث حديقة صفائه الخاصة، التي يندر أن تؤتي ثمراً قط، كان الأديم الحقيقي لطبيعة تحولاتنا، النسيج الذي استلبناه من الخارج، الألياف السرطانية التي تشكل عقلنا الداخلي، لنمونا المستحدث، هي غير ذلك على الإطلاق، وإنما باطن صوفي من الاكتئاب النفسي، يحكم الجميع بلا استثناء».
وفي المعمار الفني تبرز آلية الوصف، بوصفها حجر الأساس، للربط بين مفاصل الرواية، وصراعات أبطالها الواضحة والمستترة. فالوصف ينساب في لغة سلسلة مكثفة، كفعل معايشة، متجاوزاً التوثيق العابر التقليدي لنثريات المكان والمشهد وما يعلق بهما من أشياء وعناصر، تدل على شكل الحياة وطريقة ممارستها، في لحظة ما، في زمن ما، كاسراً، في الوقت نفسه، حياد القارئ، وبتلقائية شديدة يشده إلى قلب الحالة والمشهد، وكأنه أصبح جزءاً من مكوناتهما، بل مشاركاً في صنعهما... يشارف هذا الفعل (فعل معايشة الوصف) على تخوم فنون كثيرة من الشعر والموسيقى والفن التشكيلي، كما تبرز خبرة الذات الساردة بجغرافيا المكان، والدمج بين العامية الليبية والفصحى، ما يجعل السرد بمثابة مرآة شفيفة تلتقط أدق التفاصيل من العادات والأعراف، مبرزة انعكاساتها على ذوات الشخوص، وما يعتمل داخلها من مشاعر وعواطف وانفعالات.
يتسم فعل الوصف بالحركة الدائبة، ففي بعض المشاهد يصبح وسيلة للقنص والوصول إلى الهدف بسلاسة مُغوِية خاصة في العلاقة مع الأنثى، بينما يصفو لذاته متحولاً إلى أنشودة شعرية شجية، حين يتعامل مع الطبيعة، خصوصاً في مشاهد رعي الغنم بالجبل الأخضر وألعاب الطفولة.
يتنقل العرس بطقوسه الكرنفالية بين فصول الرواية، صانعاً جسراً شفيفاً بين قوسَي البداية والنهاية، وتخفف مشاهد البحر بأفقه اللامترامي من فداحة العرس الدامي... البحر الذي يلوذ به ناصر، في لحظة أصبحت فيها حياته بمثابة مجهول لا ضفاف له، على أثر رسالة مربكة وقاتلة، تلقاها من عروسة قبل يومين من حفل الزفاف، ترجوه ألا يتزوج بها، قائلة: «أرجوك ارحم مسكينة»، لكن تحت وطأة الأعراف والتقاليد ومحنة الشرف، وأمام تهديد والدها وغضبه الضاري، تنفي علمها بالرسالة، وأن هناك من دَسَّها للوقيعة بين العائلتين.
يشد هذه الزمن الكابي الرواية إلى ذروة الصراع دراميّاً، ويتحول مشهد العرس إلى لحن جنائزي، كاشفاً عن قشرة عفنة بالداخل، تعري «عمر» رمز السطوة الغاشمة، وتجر الطبقة التي صعد إليها إلى الهاوية، لافتةً إلى زيفها، مهما تستَّرت بقشرة التقدم والحداثة، فهي طبقة لا تملك أن تستر عورتها التي صنعتها في نفسها، إلا بالمزيد من البطش والتخلف... فقدت «درية» العروس عذريتها، تحت وطأة زنا المحارم، على يد أخيها المراهق الصغير في لحظة طيش، وتوقَّف تعليمها الجامعي، بعد نمو بذرة طفل في بطنها.
ورغم المهانة التي تعرضت لها في ليلة الزفاف على يد ثلة من أقاربها، تكشف هذه النهاية عن مفارقة إنسانية شديدة الأهمية فناصر العريس المنفتح على الحياة المسلح بالعلم، ونال شهادة علمية من أميركا، يقرر التصالح مع قدره التراجيدي، عازماً على أخذ عروسه فوراً إلى إنجلترا، لتجري عملية إجهاض آمنة من حملها الشائن، بعدها يمنحها حرية الاختيار، إما أن تعيش معه، ويواصلان الحياة معاً في فضاء مغاير، وإما أن يُطلِقَها ويذهب كل طرف إلى سبيله. على عكس عمر صاحب النفوذ المتسلط، الذي دفع أخاه دفعاً إلى هذه الزواج، طمعاً في ثروة أبيها صاحب محال الجواهر، وجره إلى عالم المقاولات حتى يصبح في فلك سيطرته ونفوذه.
في هذه اللحظة السوداء المصيرية، وبينما ناصر مسلماً روحه وجسده لرذاذ البحر، متخذاً قراره بإنقاذ عروسه، مهما كان الثمن، يندفع عمر صاعداً إليها في حجرتها وهو يزمجر ويصرخ، مصمماً على طردها، وإلقائها في حوش والدها، لم تُثنِه رجاءات إخوته وتوسلاتهم، بأنه ليس من حقه ذلك، وأن الذي يقرره هو ناصر، تلمحه العروس، فتهرع إلى الحمام فاتحةً أنبوب الغازل وتشعل النار في جسدها.
إنه الصراع الخفي بين قِيَم الجهل والاستنارة، بين من يهتبل الحياة بالاغتصاب و«الفهلوة»، واللعب على مفارقات الأضداد العقيمة، ومن يحتفي بالروح ويحتمي، حتى بهشاشتها ولحظات ضعفها الإنساني النبيل، كطاقة حية في شرايين الأمل والحب... هكذا تتعفن الطبقة التي لا تملك مقومات أصيلة للحياة والوجود وتتحول أحلامها إلى مسلسل لا ينتهي من التشوه والقذارة.