وحوش آينشتاين: ثقوب سوداء ونسبية عامة
في أوائل عام 1919، انطلقت بعثتان علميتان من بريطانيا، إحداهما إلى جزيرة برينسيب قبالة ساحل غرب أفريقيا، والأخرى إلى سوبرال في البرازيل. اعتبر العلماء أن كلا من الوجهتين هو الموقع الأمثل لرصد كسوف الشمس في 29 مايو واختبار نظرية طرحها فيزيائي ألماني.
انحناء الفضاء
اتضح أن نظرية النسبية العامة التي وضعها الفيزيائي الألماني ألبرت آينشتاين صحيحة، وسرعان ما استحوذ صاحبها على مخيلة الناس وأصبح بين ليلة وضحاها مشهورًا في عالم يبحث عن أبطال بعد سنوات من الحرب.
لكن، على الرغم من الشهرة والإعجاب، لم يكن آينشتاين دائمًا يقبل ما تقوله نظريته عن الكون. وكما يشرح كريس أمبي الفلكي في جامعة آريزونا الأميركية في كتابه "وحوش آينشتاين: حياة الثقوب السوداء وأوقاتها" Einstein’s Monsters: The Life and Times of Black Holes (295 صفحة، منشورات دبليو دبليو نورتون)، فإن الفيزيائي الكبير أقر بأن الجاذبية يمكن أن تحني ضوء النجوم وتبطئ الزمن، لكن كانت لديه شكوكه في تنبؤ النسبية العامة بوجود أجسام غامضة في الكون هي الثقوب السوداء.
في نظرية آينشتاين، يكون سبب الجاذبية حدوث انحناء في الفضاء بسبب وجود الكتلة. فالأرض تدور حول الشمس ليس بسبب شد وجاذبية تمارسها قوة غامضة وانما لأن انحناء الفضاء هو الذي يملي على الكتلة كيف تتحرك، في حين أن الكتلة هي التي تقول للفضاء الزمكاني كيف ينحني.
الثقب الأسود حالة قصوى تكون الكتلة فيها مركزة بحيث أن رقعة من الفضاء تنفصل عن باقي الكون. ولا شيء يفلت من الثقب الأسود، بما في ذلك الضوء.
قصة ساحرة
تقول صحيفة فايننشيال تايمز في مراجعتها كتاب أمبي إن المؤلف ينسج قصة ساحرة من أبحاث وأفكار علماء صنعوا تاريخ الثقوب السوداء من خلال الرصد والتنظير وبناء نماذج تحاكي الكون على الكومبيوتر مع جرعة قوية من التكهن والتخمين والخيال، متوصلين إلى فهم لنشوء النجوم وكيف يمكن أن تؤول، بحسب كتلة كل منها، إلى نجوم قزمة بيضاء أو نجوم نيوترونية ذات كثافة فائقة أو نجوم نابضة سريعة الدوران أو مستعرات عظمى.
على امتداد حياة النجم، يكون هناك صراع بين جاذبية تشد إلى الداخل وضغط ناجم عن تفاعلات نووية في أعماق النجم يدفع إلى الخارج. في النهاية، الجاذبية تنتصر دائمًا. وإذا كانت نواة النجم لا تقل عن ثلاثة اضعاف كتلة الشمس تقريبًا فان النسبية العامة تتوقع حتمية انهياره والتحول إلى ثقب اسود.
لا تُرى الثقوب السوداء بوصفها مخلفات نجوم ميتة إلا حين تدور قرب نجم مرئي. وبعد عقود من عمليات الرصد لم يُكتشف إلا بضع عشرات منها رغم أن عددها يُقدر بنحو 10 ملايين ثقف اسود في درب التبانة وحدها. وهي تُسمى ثنائيات حيث الجسم الداكن من المنظومة الثنائية يكون ثقبًا اسود بسبب حجمه الهائل. وما فاجأ علماء الفلك هو اكتشافهم وجود ثقف اسود هائل يكمن في مركز كل المجرات، ومنها مجرتنا، وان له كتلة تزيد ملايين أو حتى مليارات المرات على كتلة الشمس.
إشعاع هوكنغ
أيهما نشأ أولًا، الثقب الأسود أم المجرة؟ بعض العلماء يرى أن الثقوب السوداء البدئية ربما نشأت بعد فترة قصيرة على الانفجار الكبير قبل زهاء 13 مليار سنة عندما كان الكون الوليد ساخنًا وكثيفًا.
منذ ذلك الحين، تنشأ الثقوب السوداء حين تموت النجوم والكبيرة منها تنمو بالتهام الغاز في مراكز المجرات والالتحام عندما تنشأ المجرات. كان الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكنغ هو الذي اكتشف في عام 1974 أن الميكانيك الكمي يفترض أن الثقب الأسود يشع طاقة ويتبخر. ويكون التبخر، طبقًا لإشعاع هوكنغ، بطيئًا بحيث يستغرق اختفاء ثقب اسود له كتلة الشمس 1066 سنة (أي 10 يليها 66 صفرًا).
من المتوقع أن تكون اشد التطورات إثارة في دراسة الثقوب السوداء خلال العقود المقبلة نتيجة التقاط موجات جاذبية تبلغ سرعتها سرعة الضوء. وكانت موجات الجاذبية الأولى اكتُشفت في عام 2015 وحدثت نتيجة اندماج ثقبين اسودين قبل 1.3 مليار سنة. وتتيح موجات الجاذبية طريقة جديدة "لرؤية" الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية والمستعرات العظمى واختبار النسبية العامة في المستقبل. وأمبي في كتابه ينظر إلى المستقبل البعيد ليرى كيف تنمو الثقوب السوداء ثم تموت مع توسع الكون وتبدد المجرات. وحتى أكبر الثقوب السوداء ستتبخر ذات يوم في نفحة من إشعاع هوكنغ. فلا شيء يبقى إلى الأبد.
هذا التقرير عن "فايننشيال تايمز".